لقد خف جو الانفعال بأحداث الربيع العربي سواء من زاوية التبني والتزكية أو زاوية النقد والتجريم وهو أمر يساعد على ضبط بوصلة التحليل ويخفف من حدة المواقف وإطلاقيتها والموقف من المخالف في شأنها. ولعل الوقفات التالية تمثل قراءة أرجوها أكثر توازنا في موضوع قسم الناس والدول والمحاور :
1 - من الإساءة للشعوب التشكيك في دوافعها ابتداء ومن الاحتقار لها اعتبارها أداة تحركها قوى ولوبيات في إطار صراع النفوذ والسيطرة.
لقد كانت انطلاقة الربيع العربي أو الربيع الديمقراطي عفوية شعبية يختزن أصحابها رصيدا من المعاناة التي خلقتها سياسات الاستبداد والتبعية والفساد ومن لطائف القدر أنها بدأت في بلدين يعكسان هذا الثلاثي بامتياز (تونس ومصر) ومن إجماعيات القراءة الموضوعية أن الشعوب المعنية حينها وتلك المتابعة للتطورات تلقت هذه القومة الشعبية بالارتياح والقبول، واعتبر مراقبون كثر أن عهد العرب مع الديمقراطية ونبذ الاستبداد قد بدأ.
2 - كان واضحا بعد نجاح الثورتين التونسية والمصرية أن التيار الإسلامي سيكون له حضور ودور كبيران وهو ما عكسته أول انتخابات جرت في البلدين، رافق ذلك حضور مماثل في الحالات الأخرى التي عرفت حراكا شعبيا متزايدا ( ليبيا ، اليمن ، سوريا ....) وقد ولد هذا الأمر ضجرا عند الأطراف الأخرى (بعضها ثوري والبعض الآخر ليس كذلك ) وقد أسهم هذا الضجر في توتير العلاقة مع الإسلاميين بل أسهم في اصطفاف بعض هذه الأطراف مع انقلابيين ورواد الثورة المضادة وإن ندم بعضهم لاحقا، ولم يكن الإسلاميون بدورهم بريئين من إفساد هذه العلاقة حيث أظهروا ميلا للإستقطاب الإيديولوجي (تحالف الإخوان والنور السلفي في مصر ) وبدا منهم بعض الزهد في العقلية الانتقالية التي تقوم على الشراكة الواسعة والطمأنة المتبادلة ففي حالات التحول الديمقراطي لا يناسب أن نتكلم عن حكم اختارته الأغلبية ومعارضة خسرت الانتخابات بل هو التوافق والتكامل حتى يكتمل التحول.
3 - بانتقال الربيع إلى ليبيا واليمن وسوريا بدأت صورته تتغير وبدأ التباين في شأنه يشتد وتعارضت الأولويات بين الحرية والمقاومة فتقارب دعاة الحرية مع جهات تقف ضد المقاومة والممانعة واصطف أنصار المقاومة مع حماة الاستبداد واستطاع الرفض الداخلي للربيع الديمقراطي الذي تزعمته أنظمة باطشة أن يجد دعما وإسنادا من رعاة الثورة المضادة ، وكان التوجه نحو عسكرة الحراك الشعبي والذي يبرره أصحابه بحجم البطش السلطوي حاسما في التحول نحو ما يشبه الفتنة التي تغذيها انقسامات طائفية ومناطقية لا يخلو منها أي من البلدان الثلاثة وهكذا تهيئت الأجواء لظهور الغلاة وتنظيماتهم المختلفة ووكلاء الأطراف الأجنبية ذات الأجندة الاستعمارية.
ومن هنا تغيرت صورة الربيع واستطاع أعداؤه أن يربطوا بينه وبين مآلات الفتنة والصراع والدمار في هذه المواقع الثلاث مشرقا وخليجا ومغربا رغم أن هذا الدمار هو حصيلة الثلاثي : الطغاة والغلاة والغزاة.
4 - كان واضحا من تطورات مسار الربيع الديمقراطي في منطقتنا أن ثمة جهات خارجية نافذة ومؤثرة لاتريد لهذا الجزء من العالم التطور الديمقراطي وتخاف من تحكم الشعوب في مصائرها عندنا، والتقى معها في ذلك دول وأنظمة تخاف أن يصلها الربيع فاستبقت بالحرب عليه في دياره الأولى، مع الطرفين تناغم متضررون وخائفون ومصفون لحسابات وهكذا وجدت الشعوب وقواها الحية كل هذا الإصرار لإيقاف المسار فكان الارتباك وكانت الأخطاء وكانت القراءة الخاطئة لميزان القوة فكان ما كان.
5 - تبين لاحقا أن روح الربيع الديمقراطي لم تمت وأنها لا ترتبط بتوجه إيديولوجي معين بل قد تكون على حساب بعض أصحابه وهكذا انطلق حراك شعبي قوي في السودان انتهى إلى إسقاك حكم البشير وانطلق آخر كبير في الجزائر مسقطا بوتفليقه وبعض أركان نظامه ومحققا انفراجا جزئيا استطاع الجيش الجزائري وبعض أركان النظام إيقافه عند ذلك الحد والتحول نحو انتقال متحكم فيه، ثم كان حراك العراق ولبنان الذي تجاوز الاعتبارات الطائفية الراسخة في البلدين وفرض معادلة جديدة حققت بعض الأهداف السياسية المحدودة حتى الآن.
6 - بتتبع ما حدث منذ 2011 يمكن القول إن حاجة الدول العربية إلى الديمقراطية حاجة ملحة وأن خروجها من مرحلة الاستبداد والأحادية متعين وملح وأنه لا معنى لتأخير ذلك بحجة عدم جاهزية الشعوب فهي جاهزة ومتطلعة، والعالم من حول المنطقة العربية اجتاحه الانفتاح الديمقراطي ورأى فوائده في أغلب الأحيان... ومع ذلك الأفضل هو الطريق الإصلاحي التوافقي فنسيج هذه المجتمعات نسيج رخو وإمكانية بعث الانقسامات فيها أمر سهل والمتربصون من الخارج جاهزون، فالأولى الطريق الهادئ والمحسوب ولكن يلزم أن يكون، فلا يصلح استعجال الديمقراطية والإصلاح لتبرير السبيل العنيف أو المؤدي إلى الاضطراب ولا يصلح التعلق بالاستقرار والخوف من الفوضى مبررا لرفض التحول نحو الحرية والحكامة الرشيدة أو تأجيلها.