الثّورات تأكل أبناءها، هذه المقولة تنطبق أيضًا على الأحزاب، وحزب العدالة والتنمية الذي حكم تركيا مُنذ عام 2003 ليس استثناء، بالنّظر إلى حالة الانقسام التي يعيشها حاليًّا، وتشمَل أبرز رموزه ومُؤسّسيه.
ضربتان قويّتان تعرّض لهُما الحزب في الأسابيع القليلة الماضية، الأولى: استقالة السيّد علي باباجان، نائب رئيس الوزراء، وزير الماليّة الأسبق، الذي يُوصَف بأنّه العقل الرئيسي الذي وقف خلف الطّفرة الاقتصاديّة التي حقّقها حزب العدالة والتنمية وأدّت إلى زيادة شعبيّته واستمراره في الحُكم لأكثر من 16 عامًا، والثانية: استقالة الدكتور أحمد داوود أوغلو، رئيس الحزب، ورئيس الوزراء الأسبق، وصاحب نظريّة “زيرو مشاكل” مع الجيران، ومُهندس “العثمانيّة الجديدة”.
القاسم المُشترك الذي يجمع بين الرّجلين هو العداء للرئيس رجب طيّب أردوغان، والاختلاف الجذري مع مُعظم سياساته الأخيرة، وخاصّةً نقل البلاد من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، وتقديم الولاء داخل الحزب للرئيس على حساب الكفاءة، وإعادة الانتخابات البلديّة في إسطنبول، العاصمة التجاريّة التي أدّت إلى هزيمة مُهينة لحزب العدالة والتنمية، وبُروز مُنافس قوي له مُتمثّل في السيّد أكرم إمام أوغلو الشّاب الطّموح الصّاعِد نجمه السياسي بسُرعةٍ غير مسبوقة.
من المُفارقة أنّ الرجلين، أيّ أوغلو وباباجان، سيُشكّلان حزبين مُختلفين، وليس حزبًا واحدًا، يجمعهما تحت مِظلّته، وأكّد الأخير، أيّ باباجان، أنّه سيُشكّل حزبًا جديدًا قبل نهاية العام، ولن يدعو الدكتور أوغلو للانضمام إليه بسبب التباينات العميقة بينهما، والحاجة إلى رؤيةٍ جديدةٍ، مُؤكّدًا أنّ عبد الله غول، رئيس الجمهوريّة، ورئيس الوزراء الأسبق، هو أحد أبرز داعميه، ووعد الدكتور أوغلو بالشّيء نفسه أيضًا.
الدكتور داوود أوغلو أقدم على الاستقالة من حزب العدالة والتنمية، استباقًا لقرارٍ مُؤكَّدٍ من قيادة الحزب بفصله، لأنّه خرج عن تعهّداته بالصّمت وعدم توجيه أيّ انتقادات للرئيس أردوغان والحزب بعد استقالته من منصبه كرئيسٍ للوزراء بطلبٍ من الرئيس أردوغان بفعل تفاقُم الخِلافات بينهما، ووصولها ذروتها عام 2016.
الرئيس أردوغان الذي اتّهم الاثنين بالخِيانة وعدم الوفاء سيكون الخاسر الأكبر قطعًا لأنّ هاتين الاستقالتين جاءتا في وقتٍ يُواجه فيه أزمات داخليّة وخارجيّة مُتفاقمة، ففي الداخل هُناك انكماش اقتصادي ومُعدّلات تنمية هبطت إلى الصفر، ومُشكلة لاجئين، وفي الخارج ما زالت خُططه لإقامة مِنطقة آمنة في شمال سورية تُواجه عثَرات عديدة، أبرزها تمسّك “الحليف” الأمريكي بالأكراد، وتقديم الدعمين السياسي والعسكري لهما في شرق الفرات والشمال السوري، ولا يُمكن تناسي اشتعال المعارك مُجدّدًا في إدلب، وانهيار الهُدنة، وتفاقُم خطر تَدفُّق ملايين اللاجئين إلى تركيا.
هذا التّشرذم في حزب العدالة والتنمية سيُضعِف قاعدته الانتخابيّة حتمًا، ويصُب في مصلحة المُعارضة، وخاصّةً الحزبين الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي المعروف بقُربِه من القضيّة الكرديّة، والمُتّهم أردوغانيًّا بالإرهاب ودعم حزب العمال الكردستاني الانفصالي.
لم يتَحدّث “المُنشقّان” أوغلو وباباجان حتّى الآن عن موقفهما من الأزمة السوريٍة وتدخّل حُكومتهما الحاليّة فيها سياسيًّا وعسكريًّا، واكتَفيا بالعُموميّات، ولكنّنا لا نستبعِد أن يُحاولا النّأي بنفسيهما عن مواقف الرئيس أردوغان والدائرة المُقرّبة منه، والمُتمثّلة بفتح أبواب تركيا للاجئين السوريين، ودعم الجماعات المسلّحة والمُصنّفة إرهابيًّا في إدلب، رغم أن الدكتور داوود أوغلو كان من أبرز الداعمين للرئيس أردوغان وتدخّله في الأزمة السوريّة، وإطاحة حُكم الرئيس بشار الأسد، ولا نكشِف سِرًّا إذا قُلنا أنّه كان مُؤسِّس مجموعة أصدقاء سورية التي وفّرت المِظلّة والدّعم لهذا التدخّل، وعقد أوّل اجتماعٍ لها في العاصمة التونسيّة.
التّاريخ يُعيد نفسه، ففي عام 2002 كان الرئيس أردوغان على رأسِ مجموعةٍ من 124 شخصًا انشقّت عن حزب الفضيلة بزعامة نجم الدين أربكان، الأب الروحي للحزب، وكان من بين المُنشقّين داوود أوغلو، وعبد الله غول، وعلي باباجان، وأسّسوا جميعًا حزب العدالة والتنمية.
ليسَ من الصّعب علينا التكهّن بالأخطار التي ستُحدِثها هذه الانشِقاقات على حزب العدالة والتنمية وقاعدته الشعبيّة، فأيّ حزب جديد يُشكّله المُنشقّون، مُفرّقين أو مُجتمعين، سيأكُل من رصيده وجماهيريّته، ولكن ما لا نستطيع التّكهُّن به هو السّياسات التي سيتّبعها الرئيس أردوغان لتقليص الخسائر، ولا نقول منعها، داخليًّا وخارجيًّا، إقليميًّا ودوليًّا، وما علينا إلا الانتظار.
“رأي اليوم”