يبدو أنه لا مناص لنا من متابعة الجدل الدائر على صفحات هذا الفضاء، الذي طالما احتفينا بسمينه، وتفاعلنا معه وجذبنا، وإن أقلقنا غثه، دون أن نضيق بتنور وجرأة بعض رواد معسكراته، واصطفافاتهم غير العلمية أحيانا.
لم يذهب الإسلام في التعامل مع الرأي الآخر إلى تبنى خطاب الخصومة والإقصاء، وإنما راعى الانفتاح، وتغليب التعاون، والبر، والاستثمار في المشترك، قال تعالى:(ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى)، وقال:(وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).
ولقد توصلت مدرسة العلمانية في أحدث خطاباتها، المنادية بنزع القداسة عن العالم، إلى خلاصات، عدت من أهم وأولى أدبياتها، كالتسامح، والديمقراطية، حتى في الرؤية الفلسفية، وضمن المنظومة الفكرية العامة لها، عندما ركزت على"رؤية للعالم واحدية مادية، ترى أن العالم يحوى داخله كل ما يكفى لتفسيره، والتعامل معه، بغض النظر عن أي شيء خارجه".
إن نخبنا بمن فيهم الطيف الوطني، بحاجة إلى رؤية مغايرة، لإدارة الخلاف، والاهتمام بالنقد الهادف والموضوعي، الذي يجعل من قبول الآخر واحترامه، أولوية تتسع لها صدورنا، بعيدا عن الانفعال والمفاصلة.
ما يسىء إلى الجميع، هو شيوع مفردات الغمز والتجريح والنرجسية.
إن معركة السياسيين والمهتمين بالثقافة والفكر، تتجه صوب ضرورة التغيير، والعمل على الإصلاح، وإقامة العدل، وتعزيز النظام الديمقراطي أولا، ولا يحسن التحامل على من يرى في التعلق بمصدر للمعرفة سبيلا لتفكيره وممارسته، ولا تتلخص الإشكالية فيما قد يتبادر إلى الذهن، من فصل بين الدين والسياسة.
إن عنوان الإسلام يستوعب الجميع، ولا يقبل الاستخدام المفرط للتلويح بسيف الجرح والتعديل، لإخراج المخالف في الفكر من الدين، وتجذير الفصام.
والانخراط في هذه الخطابات التي تتخذ من الغلو والاتهام، رافدا مسلطا على أهل النهى والعقول، غير مقبول.
وبالجملة فإن المجترئين على ثوابت الأمة وثقافتها وتراثها، يخطؤون في تبنيهم لموضات فكرية، ذبلت حتى في بيئتها الطبيعية، كما يخطئ المبالغون في المحافظة، في رقابتهم على الفكر، حين يقدمون فهما سلبيا عن الإسلام، ولا يتفطنون إلى مقصدي: الرحمة والتيسير، بداية.
يفتقر كلاهما إلى قليل من المراجعة والتفكير بخطاب هادى، يحاول تفهم الآراء، والتعامل معها، وإن لم يقتنع بأدبياتها كمرجع ومنهج.
ويظل حق التعبير والمشاركة مصونا، وأهمية الحوار مطلوبة، أما التطاول والسب والشتم، وتغذية الاشتباك، فتصب في خانة إضعاف الفكر، وإنهاك الجميع.
وفرص التلاقى والحوار ممكنة وواردة، بدل الصدام والانكفاء، والتناقض، والتباهي بصراع الإيديولوجيات.
إن اعتناءنا بما نجزم به من الغيب، لا يجوز أن يلغي مبدأ: رفع الحرج، والمرونة، وفرضية التطور، وقيمة التعايش، مهما لاحظنا عدم ملاءمة بعض الحلول المستعارة، والمنتمية إلى حضارة أخرى.
ولم يعد تعصب التخندق، ولا صفة الاستقطاب مجدية.
ولا أحد يمتلك الحقيقة بمفرده، للتخويف، وإطلاق حملات التشويه، والتجريح، لتعميق الهوة بين الإخوة الشركاء.
وتبقى الصورة المناسبة لهذا السجال والحجاج، منابر الثقافة ومراكز الدراسات، لا صفحات التواصل الاجتماعي، أو الإعلام وحده، الذي يضخم (المرض) ويعمق الفجوة.
عبد المالك ان ولد حني.