عندما توجه الموريتانيون تلقاء المسار الديمقراطي والرؤى الانتخابية، كان عليهم الاستلهام من التجارب المختلفة، ولكن كان عليهم أكثر أن يحققوا النموذج الموريتاني المستجيب لواقع المجتمع ولمتطلباته وللنقاش السياسي والاجتماعي الدائر، وضمن هذا السياق تم إنشاء اللجنة المستقلة للانتخابات، التي أعيدت هيكلتها أكثر من مرة بما جعلها مع الزمن مدرسة تتعمق فيها التجارب وتترسخ القيم، وأحسب أنها وصلت إلى مرحلة متقدمة جدا من المؤسسية ووضوح الأهداف واستقرار قيم العمل خلال السنوات الأخيرة.
ولحسن الحظ، أن فكرة الانتخاب كانت إطارا موجها لعمل اللجنة طيلة الانتخابين الأكثر أهمية في تاريخ البلاد خلال الفترة الأخيرة، وهما انتخاب التشكلة الجديد من أعضاء البرلمان والمجالس البلدية والجهوية، في سياق سياسي وعملية انتخابية متعددة الجوانب، ثم انتخاب رئيس للجمهورية وفاء للقيم الدستورية التي تودع رئيسا منتخبا منتهي الولاية الثانية، وتفتح المجال أمام الموريتانيين لينتخبوا رئيسا آخر، يلقون إليه بزمام الحكم ليقود رحلتهم نحو النماء الذي يستحقون والحرية والديمقراطية التي ينشدون ويراكمون بحدارة وإبداع لبناتها.
ضمن فكرة الانتخاب هذه، كان على اللجنة وأحسب أنها وفقت إلى حد كبير في ذلك – انتخاب الأجود والأحسن من الأداء وتوفير الأجود والأكمل من الظروف المناسبة للاقتراع وممارسة حقي التنافس والاختيار، ثم انتخاب الأكثر كفاءة وقدرة على إدارة هذه العملية من الكفاءات الوطنية العاملة سابقا في هذا الحقل الانتخابي البديع، أو من الكفاءات الشبابية المختلفة الذين كانوا الجنود المبتسمين دائما رغم قساوة بعض الظروف، ورغم سهام التخوين التي تقاطرت عليها من كل حدب وصوب، فقد كان الجميع يريد منها أن تنوب عنه في كل ما يريد وأن تحقق له كل ما يصبو إليه، بل يريد البعض أن توصله إلى ما لم توصله إليه الجماهير، بينما تنتهي مهمتها عند توفير الجو الأمثل للعملية الانتخابية في كل مراحلها إلى إعلان النتائج الأولية ليحال الأمر بعد ذلك إلى قاضي الانتخابات – المجلس الدستوري – ليعلن رأيه وهنالك تقطع جهيزة الدستوري قول كل خطيب.
انتخابات وطنية كاملة
ولعل مما يبعث على الفخر والاعتزاز أن هذه الانتخابات كانت موريتانية خالصة، من حيث تمويلها ووسائلها وإدارتها وإشرافها، وأثبتت قدرة الشعب الموريتاني وعبقرية كفاءاته الإدارية والسياسية، فطبعت البطاقات داخل موريتانيا، مما اختصر الزمن والتكاليف ولم ينقص الجودة بل زادها وعزز الشفافية.
وتلك مزية ينبغي أن نفخر بها، لأنها تزيد وتعزز السيادة الوطنية وتحفظ أخص خصوصيات الشعب الموريتاني وهي كرامته السياسية وحقوقه الدستورية في الانتخاب والتصويت والاختيار وحقه في أن يدير بأيدي نخبته خصوصيات اختياراته.
لم تقل اللجنة في أي وقت من الأوقات أنها ستقدم انتخابات خالية من أي شائبة، إذ ليس ذلك في مقدور البشر وليس متاحا لأرقى الديمقراطيات وقد سمعنا وقرأنا كثيرا من السجالات والأزمات التي صاحبت وأعقبت انتخابات كثيرة في بلدان ينظر إليها العالم على أنها مهد الديمقراطيات.
إن هذه المهمة على نبلها لم تكن معبدة الطريق بالشكل الكافي، شأنها في ذلك شأن كل المهام العالية، والأحداث الأساسية في مسيرة الأمم والشعوب والديمقراطيات النامية إذا صح هذا التعبير.
ولقد قال رئيس اللجنة في مقابلة سابقة مع أحد المواقع الإلكترونية إنني أملك سلاحا واحدا لتحقيق طموحات القوى السياسية والشعب في انتخابات حرة وشفافة وهو "كسب ثقة الزملاء في اللجنة والسير على نهج الوسطية والاعتدال والحياد والوقوف على نفس المسافة من كل الأطراف المتنافسة".
ولقد ظلت هذه النقاط الجوهرية مصابيح تضيئ طريق العمل وكانت علامات نهتدي بها في طريقنا ومع الزمن أصبحت عادات وقيم حاكمة لأداء اللجنة وموجهات يعود إليها الجميع، ومنها ينطلقون.
لقد اتخذت هذه الضمانات أو زرع الثقة بين أطراف المشهد الانتخابي والمتنافسين وبين اللجنة المستقلة، أوجها ومجالات عديدة، منها:
- إشراك المترشحين في مختلف الخطوات التمهيدية للانتخابات: حوارا واقتراحا وإشراكا في التصور وعرضا للمقترحات المطلوبة، وعلى سبيل المثال عندما أنجزت اللجنة البطاقة الموحدة للتصويت، قامت بعرض النموذج على كل المترشحين، ووافقوا عليه دون استثناء، كما منحتهم كل الفرص التي يريدون من أجل التأكد من شفافية العملية بما في ذلك تمثيلهم إن رغبوا في ذلك لدى الشركة المتعهدة بإنجاز بطاقات الناخب، ولضمان أعلى الدرجات الممكنة من الشفافية والمصداقية، تم تأمين مقر الشركة بوحدة أمنية رفيعة، وتكليف وحدة من اللجنة المستقلة بمتابعة ومراقبة عمل إنجاز وسحب بطاقة التصويت، بل وتوقيف عمل الشركة، وتفريغها بشكل نهائي لسحب البطاقات في الوقت والكم المحدد، وقد نجح الأمر تمام النجاح.
وفي هذا المسرد نفسه تم تمنح المترشحين كل الضمانات المتعلقة بشفافية التصويت سواء تعلق الأمر بالتمكين من الحق القانوني في التمثيل في كل المكاتب، زيادة على مراقبة التصويت بشكل دقيق، وتوقيع بطاقات التصويت، وإضافة ختم انتخابي خاص، ورقم تسلسلي للبطاقة، ثم المشاركة التامة والكاملة في الفرز وتسليمهم نسخا من محاضر الفرز إلى غير ذلك، وقد تم شرح ذلك بتفصيل دائم للمرشحين أنفسهم ثم لمن وكلوه وكلفوه بالنيابة عنهم.
ولقد تم تبسيط عملية التصويت بشكل كبير فاعتمدت كل إشارة في المرابع المواجه لصورة المرشح.
ولهذا كانت نسبة البطاقات اللاغية هي الأقل في تاريخ انتخابات البلد، وهو ما يعكس جودة الأداء ونوعيته والإتقان وتزايد مستوى الوعي والدقة الانتخابية.
وذلك سعيا إلى حماية صوت الناخب وتقليل ظاهرة الأصوات اللاغية، فذلك جهد وطني لا ينبغي أن يضيع.
وكانت هيئاتهم المكلفة بالعمليات الانتخابية في مواكبة دائمة لعمل اللجنة، فمنهم من أنصف وأشاد ومنهم غير ذلك.
التكوين القانوني والفني
لقد أخذ هذا الجانب جزءا أساسيا من عمل اللجنة، تطويرا ورفعا لقدرات وكفاءات الطواقم وتنويرا وتعريفا بمختلف النظم والقوانين والحقوق والواجبات المتعلقة أو المرتبطة بها، ولقد ضاعف التكوين المستمر والمصاحب من نوعية الأداء وفعاليته وانسابية العملية الاقتراعية بل ورشاقة المسار وسهولة التعاطي الإيجابي بين جميع فروع اللجنة المستقلة في الداخل والخارج وبين المرشحين وممثليهم.
وإذا كانت الطواقم العاملة في اللجنة المستقلة قد استفادت من التكوينات المتعددة التي توفرت لها طيلة التهيئة لها وأفادت من خلالها في عمل نوعي وجيد، فإن بعض السياسيين لم يطلع على النصوص الإجرائية الضابطة لعملية الانتخاب ولحق التصويت، غير أن انتشار الثقافة القانونية كفيل بإذن الله تعالى بتذليل العقبات وتعزيز المعارف القانونية الضرورية حول الانتخاب.
التقنية في خدمة الديمقراطية
تفخر اللجنة المستقلة بقطاعها الفني الذي جمع النخبة المتميزة من المهندسين وخبراء المعلوماتية الذين يجمعون إلى الخبرة الوقادة والذكاء المتوهج، الروح الوطنية العالية، والعزم الوثاب على كسب التحدي والفوز في الرهان.
لقد نال هذا الفريق في قدراته وأشخاصه المتميزين ووسائله المتطورة تزكية وتهنئة كل الجهات المهتمة بتطوير الديمقراطية وكل المتخصصين، فانهالت عليه الإشادات من المراقبين الدوليين والسفراء الأجانب المقيمين في البلاد ومن الإعلاميين المنصفين الذين اطلعوا على عمله ومن ممثلي القوى السياسية والحزبية.
ولقد عمل هذا الفريق النبيل في مسارين أحدهما تقني بحت يتعلق بإدخال وتنسيق البيانات المتعلقة بالفرز، والثاني بالمحاضر الخطية ولا يتم اعتماد النتائج إلا بعد المقارنة التامة والدقيقة بين المحاضر والبيانات المرقمنة، وتصحيح كل خطأ عارض.
ولقد أنجز هذا الفريق أيضا تطبيقات إلكترونية مهمة سهلت من عملية البحث عن المكاتب وتعريف المواطن بطريقة التصويت الصحيحة.
الرقابة الدولية والوطنية
رافقت الانتخابات رقابة دولية واسعة، من عدة هيئات ومنظمات دولية وإقليمية، زيادة على رقابة محلية واسعة من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والصحافة ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي.
ولقد جاءت إشادة المراقبين الدوليين بمختلف جهاتهم ومواقفهم بأجواء الانتخابات لتكلل هذا العمل بالتقدير الناجح وأنصف كثير من السياسيين أيضا في الإشادة بأجواء الاقتراع والفرز.
وأستعير هنا عبارة من بيان صادر يوم 15/7/2019 عن حزب التحالف الشعبي التقدمي لأعبر بها عما كلل عمل اللجنة من نجاح وتوفيق من الله تعالى حيث وصف الحزب الانتخابات بأنها "قد شهد لها القاصي والداني بأنها أكثر تجاربنا شفافية وأبلغها مصداقية وأسلسها في خطاب حملتها وفي ممارستها الاقتراعية".
وإذا كان لي من ختام، وأرجو أن يكون مسكا فواحا بالحب والود لكل الموريتانيين، فأقول ونحن على بوابة عهد سياسي وحكامة جديدة، في ظل شرعية انتخابية كاملة أن اللجنة المستقلة للانتخابات وضعت لبنات أساسية بل أساسا ركينا لممارسة ديمقراطية راقية وراقية جدا، لقد ترسخت قيم مهمة في هذا السياق الانتخابي وتعززت الشفافية وتكللت القدرات بكفاءات وتجربة نوعية.
ولا شك أن الوجهة القادمة ينبغي أن تكون غسل ألواح الانتخابات والبدء في مسار آخر من التنمية والتطوير والإنجاز، وليكن التعليم بوابته، فمتى صلح التعليم، تحول المجتمع إلى نخبة وتحولت النخبة إلى الإبداع الفكري والنهوض التنموي وما ذلك الله على الله بعزيز، ولا على هذه الأرض المعطاء والإنسان الصبور بغريب.
(*) د. محمد يحي ولد أحمدناه مستشار رئيس اللجنة الوطنية المستقلة الانتخابات المكلف بالاتصال