لقد عرف المجتمع الموريتاني التقليدي ، شأنه في ذلك شأن سائر المجتمعات الأخرى، تسيبا و ظلما و تسلطا و كان لذلك تأثير ملحوظ على السلم داخله وعلى استباب الأمن و الطمأنينة بين كل مكوناته . لكن كانت ثمة عتبة أخلاقية و قيمية و دينية ، تشكل خطوطا حمراء لم يصلها قط تردي الأوضاع الأمنية و لا انهيار المنظومة القيمية ولا تآكل ما تم التعارف عليه من أعراف اجتماعية .و الآ ن فقد تم مع كامل الاسف اقتحام هذه العتبة و اجتياز كل الخطوط الحمراء التي تمثلها. فكان لذلك الاقتحام تجليات أخلاقية و دينية و قتصادية و اجتماعية و مؤسسية و سياسية .
فعلى الصعيد الأخلاقي ، قد تفشت مسلكيات يندى لها الجبين مثل انتشار شرب الخمور في الأ ماكن العامة و تعاطي المخدرات و كل المواد المذهبة للعقل، و انتشرت ممارسات مقززة تصطك لها المسامع منها على سبيل المثال لا الحصر قتل الأبناء لأحد أولكلي والديهم ،قتل الأ مهات لرضعهن لأغرب الأسباب ، قتل أحد الأزواج للآ خر ذبحا أو حرقا . اغتصاب الرجال لبناتهم القاصرات و استفحال خيانة الأزواج لبعضهم . ناهيك عن انتشار ظاهرة زواج المثليين و أقامة الحفلات الصاخبة لذلك .تمتع المثليين و المساحقات بنفوذ اجتماعي و اقتصادي و سياسي كبير في البلاد.
و على االصعيد الديني و العقدي فقد كثر الإلحاد والمجاهرة به .و انتشرت الزندقة الهادفة الى تحدي مشاعر الناس اضفة الى تجاسر المتهورين بشكل غير مسبوق على تمزيق المصاحف في المساجد .و حرق أمهات الكتب التي تعتبر مرجعية عند اصحاب المذهب السائد في البلاد . و كذا التطاول على الذات الالهية و الرسول الأعظم. و على الصعيد الاجتماعي فقد ضعف الى حد كبير التواصل و التواشج و التضامن بين مكونات المجتمع الموريتاني . و تقلص استعداد الميسورين لتحمل مسؤولياتهم تجاه المحرومين و ذوي الخصاصة من الفئات الهشة و الشرائح المحرومة . وقد يكون من دوافع ذلك بشكل مباشر او غير مباشر تأثير خطاب الكراهية العنصري العدواني الذي يفضي الى اذكاء الأحقاد و النعرات و الضغينة بين مكونات الشعب و مختلف فيئاته و شرائحه وذلك بتدبير من جماعات حاقدة مدفوعة من قبل أوساط معادية لتماسك وانسجام مكونات الشعب الموريتاني.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فقد استفحلت عادة نهب المال العام و اختلاس و تبذير ثروات و مقدرات البلاد، و اضحت دليلا على “الشطارة” و رمزا للنجاح و التميز الاجتماعي .
اذ بقدرما كانت ثروة الشخص المختلسة ضخمة ، بقدرما زاد رصيده الاجتماعي و سمت مكانته في المجتمع و تألق نجمه بين المفسدين ممن يضاهيهم.
وعلى الصعيد السياسي و المؤسسي، فقد تضخم ، بشكل سرطاني عدد الأحزاب بالبلاد، نتيحة لتحول هذه الأحزاب الى وسيلة استجداء و ارتزاق . و استفحلت ظاهرة الترحال بين الأحزاب و صارت نهجا لتبدل الولاءات و تحول الانتماءات. و استشرى النفاق و الخداع و الحربائية و الزئبقية . و سادت المتاجرة و المزايدات حول المبادئ و المواقف و ” القيم” و” المبادئ” و التوجهات و المبادرات و الضمائر و الولاءات… كل شيء بات يباع و يشترى كالخردة و سقط المتاع. كل هذه الظواهر و المسلكيات و الممارسات هي في واقع الأمر تجليات و أبعاد لتردي أخلاقي و ارتكاس اجتماعي و زيغ وجودي، تنذر عاجلا أم آجلا بتداعي الدعائم و المرتكزات التي يستند اليها كيان هذا المجتمع و يعود لها الفضل في كينونته و تماسكه و ديمومته ، و من ثم غدا من الضروري و من الملح أن يبادر ساسة البلا د و على وجه الخصوص المرشح للرئاسة في الاستحقاق الحالي الذي سينال ثقة الشعب الموريتاني، أن يبدأ في بلورة سياسة شاملة متعددة الأبعاد بهدف انقاذ الشعب الموريتاني من عوامل التردي الخطيرة التي بدأت تنخر كيانه و تهدده بالتلاشي و الاضمحلال. حيث ينبغي على وجه الخصوص
1. القيام بحملة تحسيسية و توعوية و تربوية مكثفة لتبيان أخطار و أضرار المسلكيات و الممارسات و التصرفات السلبية المقيتة التي باتت مستشرية في البلاد ، على أن تكون هذه الحملة مصجوبة بسياسة ردعية صارمة للحيلوية دون استمرار هكذا مسلكيات.
2. تبني سياسة ردعية حازمة و صارمة ضد دعاة التفرقة و منتجي خطاب الكراهية العنصري البغيض الرامي الى تفكيك مكونات الشعب الموريتاني ، على أن تشمل هذه السياسة جانبا تربويا ، توعويا وتنمويا لفائدة الطبقات الهشة و الفيئات المحرومة .
3. الضرب بكف من حديد على ايدي أكلة المال العام ،أيا كانوا و مهما كانت مكانتهم الاجتماعية.
4. القيام باصلاح مؤسسي جذري و تخليق العمل السياسي من خلال منع الانتجاع الحزبي و الحد من سطوة المال السياسي.
5. بلورة سياسة متبصرة و ملائمة لمواجهة الجريمة المنظمة و الوقوف في وجه عصابات الاتجار بالامخدرات و ذلك من خلال تعبئة الموارد المالية و البشرية و الخبرات الضرورية لذلك.
والواقع أن الحقيقة المريعة التي لم يعد بالامكان التغاضي عنها اليوم ،هي أن البلا د توجد اليوم أكثر من اي وقت مضى ، على حافة هوة سحيقة مخيفة ولا بد من تداركها قبل حدوث كارثة لا تحمد عقباها . نرجو الله أن يلهمنا سبل تفاديها و طرق درئها عن وطننا و شعبنا.