ليتخيل أحدكم أنه طلب رأي حكيم في تجارة فاقترح عليه أن يتبرع بها أو أن يبيعها بنصف ثمنها. سيكون ذلك صادما وله ما بعده من الأحكام على من كان قبل لحظات يعتبره حكيما... هذا لأن هناك تعارضا بين الرأي ومصدره إذ لم يصدر أحدهما عن الآخر .
هناك صورة عكسية "نيجاتيف" لهذا المشهد، وهي أن يصدر الرأي العاقل عن نفس غير سوية.
وفي الحالين يكون الرأي غير واع بمصدره وبالتالي يشبه الحدوث عن فراغ خارج ضامن وضابط الوعي .
ودعوني مرة أخرى أكشف بعض أسرار نوازعنا النفسية في اتخاذ القرارات وحتى تبنينا للمواقف .
وذلك لنعي خطورة اللحظة التي نقرر فيها أننا قادرون على المضي قدما في تأصيل رأي واع بينما تحركنا شحنات من التناقض الفاضح ،ونكتشف كذلك أننا في الغالب نتبنى مواقف مناقضة لقناعاتنا في الوقت الذي نتمتع بكامل الثقة في كوننا نفعل العكس .
وسأستخدم الشاهد الساخن وهو جدلية التطاول على المقدسات وعلاقتها بحرية التعبير والحدود المنطقية والعقلانية الفاصلة بين المفهومين .
في فرنسا العلمانية هناك ما يعرف بقانون (فابيوس – جيسو) وهو قانون معروف عالميا لكنه في فرنسا يحمل تفاصيله خاصة .
بموجب هذا القانون لا يمنع فقط نفي محرقة الهيلوكوست وإنما يحظر الحديث عنها أو تناولها بالدراسة والتقصي ، بل ويذهب لأبعد من ذلك ليمنع تناول الموضوع حتى على سبيل المزاح .
وهو القانون الذي حوكم بموجبه المفكر الفرنسي الأشهر " روجيه جارودي " على كتابه المعروف "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" في محاكمة نصبت لعلم من أعلام الفكر في العالم في بلده العلماني وبين يدي أعرق المؤسسات الإعلامية وأكثرها حرية دون أن تنبس إحداها بنصف كلمة .
وفي ألمانيا العظيمة تتم محاصرة التاريخ بالقانون حيث يحظر بيع وتداول وطباعة كتاب " كفاحي " رغم أنه مجرد كتاب صغير يحمل في طياته ملخصا ثريا لمرحلة من أهم مراحل التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي لألمانيا الحديثة .
كما يحظر القانون استخدام أي شعار من شعارات النازية بما في ذلك رفع الذراع الذي كان يعتبر تحية نازية .
وفي ألمانيا الحرة تمت محاكمة (جنتر ديكيرت) زعيم الحزب الوطني الديمقراطي الألماني ، ليس لأنه أنكر الهوليكوست بل لأنه استضاف محاضرا أمريكيا تحدث عرضيا عن شكوكه في ثبوت المحرقة ، وتمت إدانته في ثلاث مراحل من الإستئناف وبأغلبية ساحقة من المحلفين .
وفي إنجلترا صاحبة الوعي الفطري بالديمقراطية والحريات لا يزال العمل ساريا بالقانون الذي يمنع سب المقدسات BIASPHEMY LAW ،وعندما قرر مخرج دانيماركي إخراج فيلم " الحياة الجنسية " للمسيح قامت أوروبا عن بكرة أبيها بملحديها ومؤمنيها لاستنكار استفزاز مشاعر الأمة المسيحية ، وهو ما دفع قادة الرأي العام بمن فيهم رؤساء وزراء ورؤساء برلمانات ونواب وكتاب وغيرهم للوقوف إلى جانب "الأمة المسيحية " وهدد رئيس وزراء بريطانيا الحرة بأن المخرج سيقع تحت طائلة قانون سب المقدسات إن هو قرر إخراج فيلمه في بريطانيا .
وحين تم تصوير فيلم " الإغراء الأخير للمسيح " تم منعه من العرض في أغلب البلدان الأوروبية مما أدى في الحالتين إلى خسارة المنتجين وتأديبهم بالطريقة الشعبية والقانونية معا .
دعكم من كل ذلك ..
ولنخطف نظرة على القوانين المنتشرة في البلدان الأكثر تقدما وحماية للتعبير ، المتعلقة بإهانة الملكوك أو نقدهم أو الإساءة لهم .
ليجرب مثلا أحد دعاة الحرية الأفقية عندنا أن يتحدث عن عدم تناسق ألوان فستان الملكة إليزابيث في بريطانيا ، أو عن علاقة عدم مصافحتها للناس بالتكبر وأعراف النبلاء الظلامية ( سيجد نفسه مجددا في انواكشوط ودون فهم لماذا ولا كيف ) .
وفي الكويت صاحبة الإرث القانوني العظيم والتي تشرع إلى هذه اللحظة قوانينها الخاصة في الميراث بما يخالف صريح القرآن الكريم .
في هذه البلد التي تعتبر رائدة في مجال الحريات والحياة الديمقراطية يوجد قانون يتعلق بالنيل من " الذات الأميرية " له تفاصيله الخاصة والتي قد تكون مرعبة لدعاة الحرية العمياء .
أما الحديث عن ملك تايلندا فهو ارتداد عن المواطنة يفقد صاحبه إنسانيته بموجب القانون.
وفي أمريكا التي تحمل تاج الحريات عالميا يمنع بموجب القانون تأسيس أي جمعية أو حزب إشتراكي ( مجرد توجه سياسي ) وذلك للعلاقة الضمنية بين مفهوم الاشتراكية وغايته الشيوعية .
****
والأمثلة أكثر من أن تساق في منشور موجه لأمة لم تتحسن بعد علاقتها بالقراءة .
لا تتوقعوا أن سردي لتلك الأمثلة هو من باب التقليل من شأن تلك الأمم ولا لتسفيه عقلها أو وصمها بالتخلف ، فهي كما تعلمون ليست مظنة لذلك .
لكن السرد للإستشهاء على فحوى ومضمون هذه القوانين ، فالقانون ليس غاية في ذاته وإنما هو حام وراع لمصالح الأمم وتعبير صادق عن رغباتها ، وهو بذلك غير موجه لغيرها ، فإذا كان الشعب البريطاني يستاء للتقليل من شأن ملوكه فذاك هو ما سيترجمه في قوانينه ،وإذا كانت أمريكا تحس بخطر تغلغل المدد الشيوعي في منظومة الفكر والمسار الرأسمالي الليبرالي فذاك ما يخصها ويقع تحت مظلة حريتها الأممية وبالتالي يأتي القانون تتويجا لهذه الحماية والرغبة العامة .
يحدث ذلك مع إمتعاض عارم في بعض الأوساط المتطرفة في موضوع الحريات ، لكن الأمم الواعية تدرك أن حماية ناظمها العام أكثر قدسية من وأهم وأبقى أثرا وأكثر أمنا من نرعات الأقلية للحرية المطلقة .
وقد جاء في الدين الإسلامي ما يوثق ضرورة إنصياع الجماهير للقانون الذي يحميها والصادر عن من يشكل محورا ناظما ، حتى لو كان غير مريح للبعض .
قال تعالى : " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " صدق الله العظيم .
وقال : " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ " صدق الله العظيم .
وتدل الآيات على علم المشرع بتلك الأقلية الممتعضة والتي تختط للحل مسارا غير ماهو مجمع عليه من إمتثال غالبية الأفراد لمحور القرار المقدس ( الله ، الرسول ) .
ما أردت توضيحه أننا حين نطالب بالحرية علينا في ذلك الخضم العظيم أن نستبقي بعض العقل حتى نرى أن الحرية التي تكفل لشخص واحد أن يقدم على إيذاء شعب كامل أو أمة بأكملها ، ليست سوى تناقض صريح بين مطلب ضيق يدوس مطلبا أوسع ، وأن المقدسات بالنسبة للأمم أكثر أهمية من كل مصالحها التي يتكفل القانون بحمايتها ورعايتها .
فالذي يسرق بيت أحد الموريتانيين اليوم لايترك أثرا مزعجا أكثر ممن يسب نبيه صلى الله عليه وسلم أو يسخر منه أو يقلل من شأنه .
ومن الغباء أن يكون وعينا محصورا في قاموس شكلي لم نفشل فقط في استيراد روحه وإنما فشلنا في تحليله أو حتى الإطلاع عليه .
فوظيفة القانون هي الحماية من الإيذاء ، والأذية لا تحتاج لتعريف أكثر مما يعرفها به المتأذي نفسه ، وليس صعبا إتهام جماهير الموريتانيين بالغوغاء الهمجيين المتخلفين ، لكن من الأسهل أن يفتح البعض عينه الأخرى ليدرك أن من خرجوا في مسيرات النصرة كانوا يحسون بمرارة الإيذاء والإهانة ، وحتى لو صدق فيهم وصف الغوغاء والهمجية والدعشنة ، فمن الديمقراطية واحترام حرية التعبير أن يدرك الواصف أن هؤلاء هم الشعب الذي يمتلك سيادة هذه البقعة من الأرض .
وعليه أن ينتمي لأمة أخرى أو يحمل جواز سفرها ، وحين يفعل ذلك ( في اسلامة ) أوصيه أن لا يرفع ذراعه في ألمانيا ولا يناقش المحرقة في أوروبا ولا الشيوعية في أمريكا ، وسيجد نفسه هرب كمناضل لأنه لم يحترم مشاعر المسلمين الغوغاء في موريتانيا ، لكن عليه رغم ذلك أن يحترم مشاعر الأمة المسيحية المحترمة حين يتحدث عن المسيح ، ومالم يفعل ذلك فسيجد نفسه على موعد معي في انواكشوط ، أما حين يفعل ويحتفظ بأدبه فعليه أن يبرر لنفسه ذلك التناقض الذي لا يليق بالأحرار أينما حلوا .
وعلى المراهنين على القانون وثغراته أن يدركوا أن الأمم تعاقب بطريقتها الخاصة حتى حين لا يكون القانون من بنات مشاعرها ، والدليل الأكبر هو ما ترون فقد أنتصر القانون لتحرير الأفراد لكنهم رغم ذلك يحتاجون للهرب تحت جنح الظلام ولبدء حياتهم خارج الملكية الخاصة للشعب .
وما أدعو إليه هون أن نظل متحلقين جميعا حول ناظمنا الجمعي وحين نحسن ذلك التحلق سيكون بوسعنا معالجة ثغرات القانون ومعالجة الدعشنة والغوغائية أيضا ، وسيكون بين أيدينا متسع للوعي بهويتنا ومعرفة ذاتنا بعيدا عن الإسقاطات النصية وتحجر قوالب الوعي المقلد وجهله حتى بما ومن يقلد .
محمد افو
#المشروع_الوطني_أملنا