حيوانات جريئة | 28 نوفمبر

حيوانات جريئة

اثنين, 17/10/2016 - 18:38
بروين حبيب

منذ ابن المقفّع توقفت الحيوانات عن الكلام و اختفت من أدبنا، ولم يبق منها غير تلك التي تأتينا من مدن الغرب متقمّصة أدوار الإنسان.
اختفت الحكمة التي كانت تنطق بها الثعالب والذئاب والأسود والطيور والدواجن والحمير وغيرها، وكنا نعرف من خلال هذا التراث أن بني البشر يشبهون إلى حد كبير تلك الحيوانات النّاطقة، ومنها الذكي والفهيم والظريف والغشيم والغبي.
صفات بشرية كثيرة أسقطت على الحيوانات. وتلك الحيوانات «مشكورة» مثلت البشر أفضل تمثيل، لأنها نطقت بالحق وأنصفتنا. الذي حدث في ما بعد أن الحيوانات في خلال تلك الرحلة الأدبية التي انطلقت من الشرق صوب الغرب وأصبحت تراثا عظيما، ملّت من تمثيلنا لأننا خيبنا آمالها. إنه ليس النضج، ولكنه عقوق هذا الكائن الذي يسمى الإنسان. وابن المقفع يقال إن جان دي لافونتين تأثر به وكتب أقاصيصه المشابهة لكليلة ودمنة في القرن السابع عشر، أعتقد أنه تأثر بموروث الإناجيل بعهديها القديم و الجديد، ومن ثم القرآن الذي ضرب لنا فيه الله أمثلة كثيرة أبطالها من الدواب، ذلك أننا لم نطلع يوما على التراث المسيحي واليهودي بكل ذخائره الثمينة، علما بأنه قدم لنا قصصا فيه من القيم وأساليب التربية ما يناسب العصور كلها وفيه تقاطعات كبيرة مع القرآن. وقد ورد ذكر 150 حيوانا في الإنجيل، وبما أن ابن المقفع عاش في بداية القرن الثامن فهذا يعني أنه هو من تأثر بحيوانات القصص المسيحي واليهودي والإسلامي، وأن دراسات الأدب المقارن التي درست لنا في الجامعات لم تكن صادقة تماما في كشف هذه الحقيقة، وأن لافونتين بدوره نهج النهج نفسه متأثرا بالإنجيل لا بقصص ابن المقفع.
لنقل إن هذه نظرية تستحق الدراسة والبحث الجاد، معتمدين على الأمانة الأدبية والصدق تجاه أنفسنا، فزمنيا يصعب أن نلعب بمحتويات الحقبات وإخفاء بعضها وإظهار بعضها الآخر مقصوص الجذور، الذي أقصده في النهاية هو أن الحيوان كان نموذجا لتهذيب الإنسان، وتعليمه وقد لجأ المفسرون المسلمون إلى نهج ابن المقفع لإقناع الإنسان ببعض التصرفات متخذين من الحيوانات نماذج مأمورة، تنفذ مشيئة الله. خارج هذه المتاهة التي يستحلي البعض الوقوف عندها مطوّلا أحب أن ألفت نظر قارئي إلى أن الحيوان لم يأخذ مكانة مهمة في الأدب، حتى حمار الحكيم غاب في طيات المنشورات الجديدة التي جنحت نحو سرد مآسي الإنسان. وتوقفه عن خسائر معينة وهزائم لم يشف منها، مثل خسارة الأندلس وهزيمة 67. ولا أدري هل ظهور الحيوان في الأدب يعكس حالة معينة من الوعي والوضع الصحي أم لا؟
أطرح السؤال وأسترسل معكم في التوقف عند أعمال شهيرة مثل رواية «النّاب الأبيض» للكاتب الأمريكي جاك لندن، التي تأثرنا بها جميعا حين شاهدناها على شكل فيلم سينمائي عام 1991 من بطولة إيثان هوك. وشخصيا ذهبت للرواية بعد مشاهدتي الفيلم، وما زلت أتذكر رونق الكلمات في سرد مبهر للكاتب وهو يصف عالم العنف لدى البشر والحيوانات وكيف تتقاطع العوالم الساخطة غضبا حين تبلغ أوجها عند كليهما. 
كتاب يمكن اقتناؤه في طبعات جديدة منها ما هو مختصر للأطفال، ذلك أن الطفل أكثر فهما للحيوان من الناضجين، وأكثر فهما للعبرة من جراء قراءة القصص وأكثر تعاطفا مع الحيوان قبل أن تسلخ إنسانيته وتشوه بواقعنا المدمر لكل المشاعر الطيبة.
يمكن أن نقرأ أيضا «العجوز والبحر» لهمنغواي ونتأمل كيف منح البطولة للعجوز وللسمكة الضخمة، قتال مستمر مع الحيوان في قلب طبيعة شرسة كالبحر الذي لا يراه آخرون غير منظر جميل وزرقته تأخذ الألباب.
رواية «موبي ديك» الشهيرة للكاتب الأمريكي هرمان مالفيل، فاقت في نسيجها الروائي مخيلة أي كاتب آخر وهي رواية علقت بذهني لأنها صدرت في ذكرى مولدي لكن في عام 1815، طبعا عرفت هذه المعلومة بعد سنوات من قراءتها وصدمت حين عرفت أن الكاتب وروايته ظلاّ منسيين لسنوات، وأن النقد لم ينتبه للرواية كنص متميز إلا بعد أن نهش الموت البطيء صاحبها ودمره اليأس قبل أن يعرف عظمة ما كتب. 
أما موقع الحيوان في كلا النموذجين فقد اختصر بشكل ما الصراع البشري مع الطبيعة القاسية لأمريكا لإخضاعها لكل رغباته وشهواته مع أبعاد إنسانية أخرى يمكن اعتبار أهمها المثابرة والاستمرار من أجل هدف بعينه وذلك من قواعد النجاح ولو كان ذاتيا ولا يخص أحدا. ونصيحة لوجه الله لا تبحثوا عن ترجمات هذه الرواية باللغة العربية خاصة الحديثة منها لأنها شوهت القصة ونزعت قلبها النابض وحوّلتها إلى نص بلا روح. وإن كان من قرائي من هم في عمري أو أكبر فليقلبوا صفحات الذاكرة لتذكر الترجمة العربية القديمة الأنيقة التي قدمت إلينا من لبنان. وإن كان يغريهم اليوم أن يقدموا هدية لأبنائهم أعتقد أن سلسلة «ليدي بيرد» لا تزال الأكثر إدهاشا وسحرا ليس فقط للأطفال بل لأجيال من القراء الذين منحتهم هذه السلسلة عشق القراءة وحب الكتاب. 
خيال المبدعين الغربيين ذهب بعيدا في حبك قصص توقف نبضها في الشرق لأسباب دينية وأخرى تعود لنمط الحياة الذي أدخل الإنسان في تفاصيل صعبت عليه تعاطيه الأدب كنتاج روحي ومتعة شخصية، لأن من يقرأ عن حياة كاتب مثل مالفيل لن يكون سعيدا بكل عثراته ومغامراته المرعبة التي دخل فيها وخرج منها في الغالب خاسرا. أمّا عن مسألة منح أدوار مهمة للحيوانات في الأدب سواء تناولت دفة الكلام أو دفة التحكم في الأحداث فإن الأمر يبدو لنا غريبا اليوم. التشيكي فرانز كافكا مثلا في قصّته «التّحوُّل» منح لمخيلته حرية عجيبة بلغت قمة العبث بالقيمة الوهمية للإنسان الذي يعتقد أنه الكائن المفضل عند الخالق، وقد كانت هذه الرواية في مضمونها الذي ناقشه النقاد بمختلف اعتقاداتهم نتاجا يشبه التحفة الجميلة، بدون فهم مغزى صنعها، حدثت إسقاطات كثيرة لها، تبحث عن تفسير مقنع لتسلط كافكا على بطله التعيس البائس ومسخه إلى حشرة عملاقة بشعة، وبدون بلوغ أجوبة مريحة طرحت أسئلة إضافية كالتي تقول مثلا: هل بالإمكان أن نسأل ما المغزى من خلق البشاعة في الكون؟ ثم كرّت الأسئلة الفلسفية التي انبعثت كلها من تحول غريب غير واقعي، لكنه يرتبط بشكل ما بتفاصيل الحياة اليومية ويبدو أنها لبساطتها استلزمت قصة بهذا التعقيد لفهم أغلب جوانبها، أقول «أغلب» لأنها قصة تستحق المزيد من التمحيص لفهم أسرارها ورموزها، إذ أن هذه المتلازمة بين الإنسان والحيوان فيها ما يقال خارج الأنساق البسيطة التي قدمها القصص الديني. ففي القصص البشرية قد يكون الإدهاش حاصلا عند قلب الأدوار أحيانا، حين نرى بعين كاتب فذ بمخيلة تشبه الميكروسكوب حقيقة الأشخاص، تماما كما صور كافكا بطله غريغور سامسا الذي قبل تحوله إلى مسخ كان ليكسب كامل تعاطفنا ومحبتنا فيما نحن مخدوعون. ترى هل يمكننا أن نقرأ مستقبلا نصوصا عربية تروي فيها الحيوانات بشاعة الإنسان؟
من الحيوان الجريء الذي لديه شجاعة كافية لسرد تلك البشاعات؟
شاعرة وإعلامية من البحرين