قراءة عجلى في خطاب وزير الثقافة / محمد فال سيدي ميله | 28 نوفمبر

قراءة عجلى في خطاب وزير الثقافة / محمد فال سيدي ميله

جمعة, 01/10/2021 - 15:09

بمناسبة الخطة الثلاثية للعمل الثقافي، ألقى وزير الثقافة والشباب والرياضة، السيد المختار ولد داهي، أمس الخميس، خطابا شد انتباه المتتبعين شكلا ومضمونا لما اتسم به من دقة في التعريفات واستيعاب لدور الثقافة، وما تميز به من استعداد لإشراك المثقفين وتثمينٍ لدورهم، وما تضمن من منجزات فائقة الأهمية على المدييْن القريب والمتوسط

في هذا الصدد، اعتبر الوزير أن الثقافة حصننا المنيع، فقال في خطابه، أمام جمع من المثقفين ورجال الفكر والفنانين والمسرحيين والكتاب، اننا "نقف اليوم معًا على بساط الثقافة والفكر والمعرفة؛ ذلك البساط الذي مثّل -دائما- طوق نجاة الأمة وبر أمانها وقلعة اطمئنانها".

 وربط الوزير بين التواصل الثقافي والاستقرار، مبينا أننا "نقف اليوم على صعيد واحد، لنلتقي، ولنتشاور؛ حيث مثّلت الثقافة -عبر التاريخ- المنفذ الأوسع إلى الاستقرار والانسجام"، إذ أن "المثقفين كانوا على الدوام ركيزة السكينة والوقار". وهكذا خلص، في هذه الفكرة، إلى القول بأن "سُنة اللقاء كانت السنة الأنجع لتجاوز المطبات وترميم الاختلالات"، "فعبْر ثقافة التشاور تصالحت الأمم مع ذواتها". هذا التصالح مع الذات، كما عبر عنه الوزير، هو بالفعل ما نحتاج إليه اليوم أكثر من أي شيء آخر.

وتخوف الوزير من المآلات غير الحميدة التي تهدد المجتمعات بفعل توفر وتأثير الشبكة العنكبوتية، فقال، مُحِقا، ان "العالم مسكون اليوم بالتوجس المستمر من تداعيات التحولات التي تغزو مجتمعاته جراء العولمة والتدفق الهائل لوسائط وعلائق الانترنت، وما تجلبه من عوامل التأثر والتأثير بالثقافات المغايرة والممارسات الوافدة؛ هذا مع ما تحمله تلك الوسائط والعلائق من أهمية بالغة في توفير المعلومة، وفي التواصل، الأمر الذي يلقي بظلال من التحدي على الهوية ما لم تحصّن باستراتيجية واعية تستدعي المميزات الثقافية الخاصة، وتستنطقها، وتسوّرها، دون أن تحرمها من إيجابيات التلاقي والتفاعل الخلاق". وقد بدا هنا أن الوزير، رغم التوجس المُبَرَّر، يعي ما للشبكة من أهمية في جوانبها الأخرى.

ومضى الوزير ليقدم مجموعة من التعريفات الدقيقة للثقافة، فقال إنها، "بالمفهوم السوسيولوجي، تعني مجموعة المعارف التي نتعلمها ونتناقلها وننتجها ونبدعها؛ إنها الطريقة التي تروي بها المجتمعات تاريخها، إنها تعبير المجتمع عن ذاته، وكيف يتذكر ماضيه، وكيف يتصور مستقبله"، مؤكدا أنها "مرآة تعكس كل حياة المجتمع؛ لذلك نحتاج إلى صقلها؛ حتى نستعيد الألق الذي استأنسنا له، وعُرفنا به، وحتى لا يرى الآخرون منا ما يغاير الصورة التي ارتسمت في أذهانهم أول مرة.. إننا نريد صورة نقية تعكس ما يزخر به ماضينا من جمال وتنوع وتعايش وطموح وتحد.. إننا نريد ترجمة تلك الصورة من خلال فسيفسائنا الثقافية؛ عاداتنا، قيمنا، فلكلورنا، مخطوطاتنا، كتبنا، موسيقانا، فنوننا، صناعاتنا التقليدية.. كل تراثنا".

وتناول الوزير أهمية الشعر "باعتباره ذا مكانة خاصة كديوان للأمم يحفظ تاريخها وأمجادها التليدة"، معرجا على المسرح كواحد "من أهم أنساق الثقافة"، "لذلك فإن نشر هذا الفن وتشجيعه سيلعب دورا مهما في بناء الجسور الاجتماعية بين مكونات المجتمع، وتفكيك الحواجز والعراقيل النفسية ورواسب الهزات التاريخية". وذلك في إشارة واضحة إلى أن المسرح يمكنه أن يتجاوز بنا المطبات التاريخية الناتجة عن الإرث الثقافي والاجتماعي والانساني في جوانبه المظلمة والظالمة.

ولم يفت على الوزير أنه "من بين وسائل التفاهم الثقافي بناء المتاحف الجامعة والمعارض المتنوعة التي تعكس مدى التعاطي الثقافي الإيجابي الذي طبع ماضينا في جميع مراحله".

وعبر الوزير عن الاستياء المشروع من تهميشنا للإبداع والمبدعين، فأطلقها صرخة مدوية حزينة تعترف، صراحة ودون لبس، بمكمن الخلل، فقال: "حان لنا الاحتفاء بالمطرب والممثل والرسام.. حان الوقت لتشجيع صاحب المكتبة.. حان الوقت لتثمين عبقرية صانع الراحلة والهودج.. حان الوقت لدعم السينمائي وتطوير وسائله.. وبكلمة واحدة: حان الوقت للتشمير عن سواعد الجد في سبيل تعزيز وصيانة وإجلال الثقافة".

وبادر الوزير إلى شجب الانطوائية وانعكاساتها السلبية لأن "الثقافة هي إرثنا المشترك، المنفتح على مختلف الثقافات، تجنبا للتقوقع الذي لا يخدم التطور والتقدم والأخذ والعطاء" على حد تعبيره.

وبصدر مفتوح لكل آراء المشاركين، تحدث الوزير عن الاستراتيجية الثقافية الثلاثية التي أراد لها أن "تجمع بين الطموح والواقعية" ضمن أربعة أبعاد: أولها "بُعد بناء الإنسان الكفء المستعد للاضطلاع بمسؤوليته كاملة في إدارة وخدمة الثقافة"، وثانيها: "بُعد الأنشطة والفعاليات الثقافية وفنون الأداء في مجالات الأدب والفنون الجميلة والتراث"، وثالثها: "بُعد البرامج الثقافية الكبرى، مثل استضافة العواصم الثقافية العربية والإسلامية، وتنظيم المعارض الدولية، والمهرجانات المتخصصة في الشعر،  والمديح النبوي، والسرد، والموسيقى، والمسرح، والسينما، والفن التشكيلي"، ورابعها: "بُعد الإنشاءات الثقافية التي تتضمن بناء قصر للثقافة، ونصبا ثقافيا كبيرا في نواكشوط، إضافة إلى إنشاء مركبات ثقافية في عواصم الولايات وفي المقاطعات".

وفي الأخير جاء الدور على البشارة الكبرى، فأكد الوزير أننا "نؤسس لمرحلة ثقافية جديدة قوامها التنوع والثراء والإخاء والانسجام، والقطيعة مع كل المطبات والاختلالات التاريخية".

إنه خطاب يدعو كثيرا إلى الارتياح في أوساط رواد الثقافة، إذ طمْأنهم على أن مشاغلهم وجدت، في الأخير، من يهتم بها، وأن ميدانهم سيعرف دينامية جديدة توقظه من نومه الكهفي العميق الذي دخل فيه على مدى عقود.