الديمقراطية زمن كورونا.../ محمد اسحاق الكنتي | 28 نوفمبر

الديمقراطية زمن كورونا.../ محمد اسحاق الكنتي

ثلاثاء, 17/03/2020 - 17:44
محمد اسحاق الكنتي

 ظهر الفيروس في الصين فعزلها العالم. تسابقت الأمم إلى إجلاء رعاياها، ولم يخل الأمر من شماتة الأعداء؛ فلم يقترح أي بلد تقديم المساعدة الإنسانية لدولة تتعرض لوباء! ولم توجه الصين نداء استغاثة وإنما باشرت بحزم وصبر مواجهة الوباء بكافة إمكانياتها الهائلة.

كان الصينيون يبلغوننا كل يوم بأعداد الوفيات، ومعدلات انتشار المرض، والأقاليم التي ينتشر فيها، والإجراءات التي اتخذتها أجهزة الدولة لمواجهته. وكان أهمها القدرة على عزل عشرات الملايين في بيوتهم وتوفير كافة الخدمات لهم! ولم يكن ذلك لينجح لو لم تسيطر أجهزة الدولة على مجالها الترابي والاجتماعي؛ فقد استجاب الصينيون بكل سلاسة للأوامر الصارمة، وطبقوا التوجيهات بحرفية تامة. وأثبتت أجهزة الدولة، بكافة مكوناتها قدرتها على خدمة المواطن في أحلك الظروف... وفجأة بدأ تراجع الوباء؛ تضاعفت أعداد الذين يشفون، وتقلصت أعداد الوفيات، وتوقف انتشار الوباء!!!
 لم يجد "العالم المتحضر" الفرصة لإعطاء تفسير للمعجزة الصينية، فقد انشغل بالأعداد المتزايدة للمصابين في مدنه الصاخبة. ومع ذلك سارع بعض مفكريهم وساستهم، وإعلامهم إلى اتهام "النظام الشمولي" في الصين بالقضاء على كورونا، كما قضى من قبل على طلاب تيان آن مان، والتمرد الديمقراطي في هونغ كونغ.. فلو كانت الصين ديمقراطية حقا لسمح نظامها للفيروس بحرية التنقل كما سمحت الديمقراطيات العريقة، أو تبنت نظرية الانتخاب الطبيعي المتمثلة في "مناعة القطيع" بحيث يقضي الفيروس على الضعفاء ويكتسب الأقوياء مناعة منه دون أن يخسر نظام التأمين الاجتماعي، والشركات الرأسمالية باوندا واحدا!!!
 هنا تكمن المفارقة! النظام الصيني الدكتاتوري، الذي يقهر الانسان الصيني، ويسلبه أبسط حقوقه السياسية والمدنية... هذا النظام الذي لا يعرف الرحمة؛ يطبق عقوبة الاعدام، يسجن المعارضين السياسيين، ويصادر الحريات العامة.. كان أقدر على حماية مواطنيه، وأرحم بهم من الأنظمة الديمقراطية حاملة لواء الحريات والحقوق! وضع النظام الشمولي الصيني إمكانيات المجتمع كلها في خدمة المواطن، بينما تركت الديمقراطيات الليبرالية مواطنيها نهبا للانتخاب الطبيعي لأن أصحاب رأس المال لا يريدون صرف أموالهم على الضعفاء من مواطنيهم!
 هذا النظام الشمولي تجرى فيه الانتخابات، ويتم فيه التداول على السلطة، ويفوض العديد من الصلاحيات للأقاليم التي تنتخب برلماناتها، وتشكل حكوماتها.. لكن مشكلته مع "العالم المتحضر" هي أنه يكبح رأس المال وينظم المجال السياسي. فلكي يكون النظام "ديمقراطيا"، ينبغي أن يكون خادما لرأس المال في تنظير فلاسفة الليبرالية المتوحشة، المترجم في المقولة الشهيرة.. "دعه يعمل، دعه يمر". ولم تكن الأنظمة الديمقراطية لتمنع كورونا من حرية العمل، وحرية التنقل في فضاء مفتوح.
 كانت الديمقراطية؛ كما تصورها ومارسها المجتمع الأثيني نظام تشارك في تدبير شؤون المدينة يسمح للمواطنين من الأثينيين بالمشاركة المباشرة في السلطة بدل تفويضها لفرد، أو لمجموعة أفراد. غير أن الديمقراطية ما لبثت أن غدت تمثيلية حين طبقت على مستوى البلدان التي تضم مدنا عديدة. ولم تطل ممارستها حتى أنتجت كرومويل وهتلر، وتبين أن النظام البرلماني، وهو الأقرب إلى روح أثينا، غير ملائم لكل المجتمعات فاخترع نظام "الملك المنتخب" في أمريكا الشمالية والجمهورية الفرنسية الخامسة. ولم تزل الديمقراطيات البرلمانية هي الأكثر هشاشة سياسية، وضعفا اقتصاديا، وانتشارا للحركات الانفصالية. وحين أنتجت فتنة الربيع نظامين برلمانيين في بلدين من بلداننا غرق أحدهما في حرب أهلية، وعانى الآخر عدم استقرار سياسي، وانهيارا اقتصاديا...
 لقد أظهر كورونا هشاشة الأنظمة الليبرالية القائمة على مضاعفة أرباح الشركات متعددة الجنسيات. فاضطرت إسبانيا إلى إعلان حالة الطوارئ، وهي حالة غير ديمقراطية، واستنجدت إيطاليا بالنظام الشمولي الصيني، ولجأت فرنسا إلى إنزال الجيش إلى الشوارع، وتأجيل الدور الثاني من الانتخابات البلدية...
 لقد أظهر كورونا إنسانية الدكتاتور، وفضح قسوة الليبرالي.. خاطر الرئيس الصيني بنفسه ليرفع معنويات مواطنيه في يوهان، وصرح بوتن قبل قليل، وهو يطمئن على الإجراءات في مطار موسكو.. "العمل مع كبار السن مهم جدا." بينما ترك بوريس جونسن مواطنيه نهبا للانتخاب الطبيعي... كورونا فيروس ديمقراطي جدا يخير الناس بين العيش في ظل أنظمة شمولية تتكفل بهم، أو الموت على حمالات في انتظار خلو سرير في نظام برلماني... جهاز الدولة هو جهاز مناعة المجتمع؛ يقوى الثاني بقوة الأول، ويضعف بضعفه.