سجلت الدول العربية خلال السنوات القليلة الماضية ارتفاعاً مخيفاً في عدد حالات التحرش الجنسي، ولعل المثير للقلق حيالها هو حدوثها في أماكن عامة أمام أعداد كبيرة من الناس الذين لسبب أو لآخر قرروا الوقوف على الحياد.
جرأة تصل حد الوقاحة من متحرش، ضحية مقيدة بمجتمعات غالباً ما تمنعها من الاعتراض أو الحديث عما تعرضت له، وحكومات لا تعير هذه الآفة الخطيرة أي اهتمام مقابل دور محدود لجمعيات معنية بحماية المرأة وحقوقها.
وقبل الغوص أكثر في تفاصيل التحرش الجنسي لابد من تحديد إطار عام يوضح ماهية هذا الفعل. التحرش كما تعرفه منظمة حقوق الإنسان هو القيام بتوجيه الكلمات غير المرحب بها، أو الأفعال والإيحاءات ذات الطابع الجنسي المباشر وغير المباشر، التي تنتهك السمع أو البصر أو الجسد وتنتهك خصوصية الفرد، وتؤذي مشاعره من خلال جعله يشعر بالتهديد أو عدم الارتياح أو الخوف أو الإهانة.
والتحرش لا يعني بالضرورة أن المتحرش هو دائماً الذكر والضحية هي الأنثى، إذ سجلت حالات عدة في دول عدة لتعرض الرجال للتحرش من قبل زميلات لهم في مراكز أعمالهم. لكن إن الرجل الغربي، بكل انفتاحه، يجد حرجاً في التحدث علناً عن تعرضه للتحرش الجنسي، فيمكن فقط تخيل حال الرجل «الضحية» في العالم العربي. إذاً التحرش الجنسي ثلاثة أنواع: لفظي، غير لفظي (إيحائي)، وجسدي.
التحرش اللفظي هو الأكثر انتشاراً وشيوعاً في أي مكان عام في أي دولة عربية، وغالباً ما يتم التعامل معه كمزاح أو كمديح من «المعجب» للجميلة التي تمر أمامه. التحرش اللفظي يتضمن التعليقات على المظهر أو الدعابات ذات الطابع الجنسي، أو تعمد إسماع المتحرش بها كلمات بذيئة قد تكون تلميحات أو اقتراحات جنسية.
التحرش غير اللفظي أو الإيحائي وهو قيام المتحرش بالتحديق بطريقة وقحة من خلال التركيز بشكل واضح على أماكن محددة من جسد المرأة أو التصفير، أو القيام بتعابير تحمل إيحاءات جنسية بوجهه. وفي مراحل متقدمة قد يصل هذا النوع من التحرش إلى حد الملاحقة ومطاردة المتحرش بها.
التحرش الجسدي وهو اللمس غير المرغوب فيه، قد يكون على شكل ملاطفة خفيفة من خلال وضع اليد على جسد المرأة أو اللمس الأكثر عدائية من خلال ملامسة مناطق محددة، وفي نهاية المطاف يصل هذا النوع من التحرش الى الاعتداء والاغتصاب.
أسباب التحرش الجنسي
من غير المنطقي الحديث عن أسباب تحدد بشكل لا لبس فيه أسباب تحول بعض الرجال إلى متحرشين جنسياً. وفي ظل عدم قدرة العلماء على إيجاد أي نوع من الأنماط الثابتة التي تمكنهم من تحديد مواصفات خاصة بالمتحرش، فإن التدليل على سبب بعينه دون سواه غير دقيق إطلاقاً. إن أسباب التحرش الجنسي تختلف من شخص لآخر ومن موقف لآخر، لكن يمكن الحديث عن عوامل أساسية اتفق على كونها من مسببات التحرش، وإن كانت في الوقت عينه مرتبطة بعوامل اجتماعية وثقافية وعائلية مختلفة.
1- العوامل الاجتماعية
تساهم أساليب التربية التي تعتمدها بعض المجتمعات بتأمين أرضية خصبة للتحرش، خصوصاً حين يتعلق الأمر بنظرة الذكر أو الأنثى لأنفسهم وللآخرين. المجتمعات التي يعد التمييز فيها أمراً مقبولاً سواء كان هذا التمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس تؤسس لأجيال تسمح لنفسها بإهانة الآخر المختلف.
كما أن تربية الذكور على مبدأ الذكورية المطلقة مقابل فتيات هدفهن الأسمى في الحياة هو الاعتماد على الرجل، وامتاعه وتلبية حاجته، لن يؤدي بالطبع إلى علاقة طبيعة على أسس المساواة والاحترام.
2- العوامل الاقتصادية
تعد البطالة سبباً أساسياً من أسباب التحرش، فالشاب الذي يعاني من عدم الاستقرار المادي ولا يجد ما يشغله طوال النهار يكون عرضة لجميع أنواع التأثيرات. لكن البطالة وحدها لا تعني تحول الرجل إلى متحرش، بل يجب ربط البطالة هنا بخلفيته الاجتماعية والثقافية.
شهدت السنوات القليلة الماضية انقلاباً في موازين القوى داخل مؤسسات العمل وحتى الحكومات، فالنساء بتن قائدات ورائدات ما تسبب بتفجير «رجولة» العاملين الذكور، الذين لا يجدون متنفساً «لتحجيم» المرأة سوى من خلال معاملتها كسلعة جنسية، أو من خلال الإهانات اللفظية. فالتحرش الجنسي في نهاية المطاف هو استقواء طرف على طرف آخر.
3- العوامل العائلية
إن التفكك الأسري غالباً ما يساهم في تعزيز نزعة «الاستقواء» على الآخر في إطار تطوير تقنية دفاعية يحمي من خلالها الطفل نفسه. ثم لا تلبث هذه التقنية أن تتطور، وتتحول إلى تنمر دائم على كل من يحيط به، وهي عادة تعرف في عالمنا العربي بمصطلح «القبضاي» أي القوي.
لكن «القبضاي» هذا الذي لا يجد سوى الاستحسان لتصرفاته لن يكترث إطلاقاً بتحوله إلى متحرش، فهو تربى على الاستمتاع بإهانة الآخرين. يقع ضمن العائلات حالات تحرش جنسية رغم ندرة الحديث عنها بشكل علني، وكما العنف دائرة يصعب كسرها وتنتقل من جيل لآخر كذلك التحرش، فالمتحرش به يتحول لاحقاً إلى متحرش. وهذا يقودنا إلى أمر بالغ الأهمية يتم تجاهله بشكل كبير في عالمنا العربي، وهو التربية الجنسية.
يتجنب الآباء والأمهات الحديث عن الجنس مع أبنائهم وبناتهم، كما أن المناهج المدرسية تخلو كلياً من أي مادة تتعلق بالثقافة الجنسية. وعليه فان اكتساب المعرفة الجنسية تتم من خلال أساليب غير صحية، إما من خلال الأصدقاء أو من خلال الإنترنيت أو من خلال مشاهدة الأفلام الإباحية مباشرة وجميع هذه الطرق تترك آثارها السلبية على مفهوم العلاقة الجنسية، ونجد أنفسنا أمام أجيال تمتلك صورة مشوهة عن الجنس وعن النساء. وهذه المفاهيم المغلوطة تؤدي بشكل مباشر الى استسهال التحرش الجنسي.
4- العامل الديني والنفسي
يعاني المتحرش الجنسي عادة من نقص في الثقة بالنفس، وهو بالتالي يجد نفسه أقل مكانة من الآخرين. وفي الغالب يكون عنيفاً غير قادر على بناء علاقات حميمة يفكر، ويتحدث بشكل دائم عن الأمور الجنسية. يفتقد المتحرش أيضاً القدرة على التحكم بالنفس والتعاطف مع الآخرين، وهو يبرر بشكل دائم تصرفاته لدرجة أنه قد يصل إلى مرحلة الاقتناع التام بموافقة ضحيته. بتعبير آخر المتحرش الجنسي يعاني من خلل نفسي عززته عوامل اقتصادية أو اجتماعية.
يجد البعض في الدين رادعاً لهكذا تصرفات إذ إن الأديان السماوية على اختلافها تشدد على الاحترام والتسامح والعدل، وتبرز مكانة المرأة ودورها، ناهيك عن مبدأ الثواب والعقاب ومعصية الله من خلال التعرض للإخرين، وإهانتهم لفظياً وجسدياً.
5- العامل القانوني
تعالت الصرخات مؤخراً في عالمنا العربي مطالبة بقوانين أكثر وضوحاً حول التحرش الجنسي وعقابه، محملين الحكومات مسؤولية تفشي هذه الظاهرة بشكل كبير. لكن هذه النقطة رغم أهميتها قد لا تحل المشكلة، فلو أخذنا أميركا كمثال ونظرنا إلى قوانينها التي تفند كل ما يتعلق بالتحرش الجنسي في قوانينها، لدرجة أنها باتت مادة للتندر بحيث يطالب الرجال بكتيب يحدد إن كانت طريقة تنفسهم تعتبر تحرشاً جنسياً أم لا.
ورغم كل ذلك ما زال التحرش الجنسي مشكلة فعلية تهدد المجتمع الأميركي. القوانين في غاية الأهمية لكن العقاب وحده لن يجعل الأزمة تختفي، المطلوب هو محاولة معالجة المشكلة من جذورها.
كيف يمكن معالجة التحرش الجنسي
معالجة التحرش الجنسي كمشكلة اجتماعية عامة مهمة مستحيلة، لكن التعامل مع الآفة خطوة تلو الأخرى قد يحد من سرعة انتشارها. البداية يجب أن تكون من العائلة، وهنا يأتي دور الجمعيات المعنية بحقوق الإنسان والمرأة والطفل والمؤسسات الاجتماعية التابعة للحكومات. والمهمة هنا لا تتعلق بأهل يقومون بتنبيه أولادهم لمخاطر التحرش، بل بتوعية الأهل أنفسهم على نتائج أساليب تربيتهم وتحميلهم المسؤولية حين يخطئون. قانونياً يمكن للعقاب أن يشكل رادعاً للمعتدي، ويجعله يفكر مرتين قبل الإقدام على التحرش أو الاعتداء على ضحيته.
أما على الصعيد الفردي فالمتحرش وفق المفهوم العلمي، هو شخص مريض يحتاج إلى علاج نفسي يرافقه تواصل عائلي صحي يقوم من خلاله الأهل بالحديث بشكل منفتح عن التحرش. ومن الضرورة بمكان التحلي بالصبر، والاستماع لوجهة نظر ولدكم «المتحرش أو المتحرش المحتمل» عن مبررات التحرش، يتم بعدها مناقشة كل نقطة بشكل منفصل. يجب الابتعاد عن التخويف والتهديد والوعيد، فهذا لن يخلق سوى ردة فعل سلبية، يمكن توضيح التحريم الديني والتجريم القانوني للتحرش، ونظرة المتجمع لمن يقوم بالتعدي على الآخرين.
وإن كان المتحرش في عمر محدد فلا دور لأهله في حياته، فعلاجه يجب أن يبدأ منه، أي باعترافه بالمشكلة، أو بمبادرة أي من المقربين منه ومواجهته بمشكلته. وينتقل لاحقاً إلى مرحلة العلاج النفسي وإعادة تأهيل نفسه اجتماعياً.
في المحصلة التحرش لا يرتبط بمكانة الشخص الاجتماعية أو بحجم ثروته أو فقره، فالتاريخ يشهد على شخصيات في مناصب سياسية تورطوا في فضائح التحرش الجنسي. لذلك إن وجدت في الدلائل التي ذكرت ما ينطبق عليك، فقد تكون مشروع متحرش مستقبلي أو متحرش فعلي ناشط حالياً. وربما حان الوقت للقيام بأمر ما حيال ذلك وإصلاح ما أفسد.
المصدر: موقع سيدي