تعاطينا مع الشأن العام يشبه كثيرا حياتنا الاجتماعية من حيث الفوضوية واللامنطق، ويشبه تحديدا نمط نظام السير عندنا ـ سيرْكيلاسيوه ـ خاصة في المدن، وخصوصا في العاصمة. ففي السياسة، وحتى في الثقافة، بل وفي العلوم التجريدية لا أحد منا يقبل تفوق أحد عليه "ما فينَ حدْ عاطِ الحدْ الخطمه افشِ"، فالطبيب الذي كرس حياته لتخصص جزئي معيّن ويتقنه كما يتقن اسمه، من السهل أن تضرب عجوز أميّة كلّ كلامه في صفر، وتقول لمريضه: "هاذَ لاهِ يكتْلكْ"، وكأنه يطارد فيه ثأر كليْب. والغريب أن كثيرين يصدقونها بمن فيهم متعلمون!
أما المثقف المجتهد ـ ونسبة المثقف الذي أصبحت ثقافته حصانة له من مسلكياتنا السلبية ليست هي الأكثر ـ والباحث الذي كرّس حياته لظاهرة معينة أو شأن محدد، أو معرفة مخصصة، والأديب الذي شاب قرناه في دقائق الأدب، فكل ما يصدر عنهم في مجال تخصصهم مجرّد كلام لا يهمّ أحدا إلا من باب الاستعداد لتتفيهه وتحقيره، حتى ولو كان المتفَّه المكذَّبُ لم يخصص أي وقت ولا أي جهد للتعلم ولا التعليم، يكفي فقط أن يسمع وينطق، أو أن ينطق دون سمع!
أما السياسة وبحكم تسيسنا جميعا ـ أظننا من أكثر المجتمعات تسيسا وهذا ليس سلبيا إذا لم يميّع الشأن العام ويتفه الجادين فيه المثابرين لتحسينه ـ فإنها مجال مَن لا مجال له، والخطأ ليس في الاهتمام بالشأن العام، فهذا وعي وإيجابي، لكن الخطأ هو زيادة الكتلة السلبية فيه، والتي يفترض أن تمارس أنماط حياة أكثر نفعا على الوطن وعليها من الانشغال الدائم بالسياسة خاصة إذا كان انشغالا سلبيا يعرقل التغيير، ويميّع الوعي. فنحن نحتاج كتلة كبيرة جدا مهتمة بتطوير ذاتها ومنتجة، مهتمة بالتنمية، بالزراعة، بالصناعة، بالتجارة، بالتعلم والتعليم. نحتاج تكنوقراط صادقين متميزين، يكونون محلّ تقدير الجميع ولهم مصداقية كبيرة، فنلجأ إليهم في بعض المناصب والمهام حين اختلاف السياسيين.
إنّ هذه الفوضوية والتمييعية خلقت جمهورا كبيرا ليس مشاهِدا فقط يتفرج على السياسيين ـ حيث يفترض وجود جمهور أمام كل حلبة ـ بل منتج لنمط خاص من "التسيس"، ومشارك فعّال في التثبيط والتيئيس والتمييع، ويخلط بين أدوات وأساليب صناعة التخلف مرة، والارتهان للخلفيات الاجتماعية المعيقة والتفاخر بالأطر التقليدية والحميّة لها، وبين ادعاء السعي للتغيير والمساهمة في التثقيف والتوعية. وليس هذا مقصودا دائما، بل في أحيان كثيرة يكون نتيجة الاهتمام بالوطن والشأن العام بصدق، ولكن دون بذل جهد للحصول على السقف الأدنى من أدوات التعبير ـ السياسي والفكري والثقافي وحتى اللغوي ـ تعبيرا سليما نابعا من رؤية منطقية جادة، مهما كان توجهها.
إنه لمنَ العجب استسهال الهروب إلى الماضي وتبرير حاضرنا به دائما، فكثيرون يبررون كل نواقصنا الآنية بالكلام عن الماضي والمقارنة معه ولو كان قبل نصف قرن، بدل الاتساق مع مقتضيات التطور البشري الهائل، وبدل السعي إلى المستقبل الأفضل انطلاقا من الاستفادة من الماضي وتطوير الحاضر بالنقد والتقييم والبذل والعمل.
لقد بلغ بنا التمييع درجة أصبح كثيرون من شبابنا "الواعي" يعتقدون أن أكبر مذمة يمكن أن توجه للأحزاب مثلا ـ المعارضة غالبا ـ وللسياسيين، هي السعي للحصول على السلطة، طبعا قد يصدر ذلك ممن يؤيد من اغتصب السلطة بالقوة، كما أصبح كثيرون منا مع الأسف يدافعون عن لجم وقمع أي بصيص لزيادة منسوب الحرية، وزيادة منسوب الوعي، في وقت نحتاج فيه زيادتهما بأكبر جرعة ممكنة.
ليست هذه دعوة ليعتزل البعض الشأن العام خاصة الشباب فترك الشأن العام للجامدين والفاسدين خطأ كبير، ولا لاحتكار "النخبة" له فهو شأن عامّ وليس تخصصيّا، بل تنبيه لضرورتين: الأولى تطوير الذات وعيا وثقافة وحتى لغة، وذلك بالتعلم والمطالعة والاستفادة من أرباب كلّ فنّ في فنهم، والثانية ضرورة الحد من تمييع كل شيء حتى لا يفقد كلّ شيء معناه، فنتيه في المعنويات (السياسة والثقافة) كما نتيه في الماديات (سيرْكيلاسيوه والأسواق).