في ظِل حالة الصّخب العربيّ، واتّساع دائِرة الحِراكات الشعبيّة في أكثر من دولةٍ، خاصّةً في الجزائر، الجار القريب، أو في السودان الأبعد جُغرافيًّا الأقرب ثقافيًّا، تبدو موريتانيا هادِئةً وديعةً مُتصالحةً مع نفسها وجيرانها، رغم أنّها تقِف على أعتاب انتخابات رئاسيّة جديدة.
هذا البلد الأصيل الذي حكمت عليه العوامل الجغرافيّة أن يكون النّقطة الأبعد عن المشرق العربيّ، يبدو الأكثر تمسّكًا بعُروبته وعقيدته الإسلاميّة، فقد دخل التّاريخ الحديث بأنّه أوّل دولة عربيّة تُغلِق السّفارة الإسرائيليّة وتطرُد السّفير، والأكثَر من ذلك تُرسِل الجرّافات لاجتِثاث مبنى السّفارة من جُذوره، حتى لا تُبقي أيّ أثر لهذا “الدّنس″، حسب وصف أحد السّياسيين البارزين.
غريبة موريتانيا هذه، بلد زاهد بالشّهرة ومُغرم أهلها وقيادتها بالتّواضع والطّيبة، والمُباهاة بالثّقافة والشّعر والرواية، والتّمسّك بالقِيم الإسلاميّة العربيّة الأصيلة لدرجة التطرّف، إنّها امبراطوريّة لغة الضّاد، وقلعة الخليل ابن أحمد، وإرث سوق عكاظ الشعريّ، ولا غرابة أن تُسمّى بدولة المليون شاعر.
في الوقت الذي يتمسّك زعماء عرب طاعنين في السن، تجاوز مُعظمهم الثّمانين بمراحل، ويُعاني بعضهم من مرض “الزهايمر”، وفُقدان جزئي أو كلّي للذاكرة، بكرسي الحُكم، وتعديل الدستور لكي يُقيمون على كرسي العرش حتّى الموت، يعلن رئيس موريتانيا الرياضي الذي يبدو أصغر من عمره كثيرًا (63 عامًا) عن التِزامه بالدستور الذي يُحدّد رئاسته بفترتين فقط، ويطرُد الجوقة “المُنافقة” التي طالبته بتعديل الدستور والبَقاء في الحُكم.
***
عندما التقيت الرئيس محمد ولد عبد العزيز في القصر الجمهوريّ المُتواضع الأثاث، والخالِ من الحرّاس تقريبًا، ودون أيّ تدقيق أو تفتيش، باستثناء سؤال عابر لسائق السيارة التي نقلتني إلى الباب الرئيسي، سألت الرئيس كيف فعلتها، وقرّرت إغلاق السّفارة الإسرائيليّة، قال الأمر بسيط، كنت أشاهد بعض لقطات من الدمار الذي نتج عن القصف الإسرائيليّ لقِطاع غزة أثناء عدوان 2014، ولفت نظري صورة طفل صغير استشهد والديه وجميع أشقائه وشقيقاته، ووقف تائهًا فوق أنقاض منزله، هزّني هذا المنظر وأغضبني، فاتّخذت قرار طرد السفير الإسرائيلي فورًا وإغلاق سفارته، رغم أن بعض القادة العرب، نصحني “بتجميد” العلاقات وليس قطعها تجنّبًا للغضبين الأمريكيّ والإسرائيليّ، ولكنّني لم أفعل (ذكر اسم أمير خليجي).
الأكثر من ذلك، والكلام ما زال للرئيس بن عبد العزيز “قرّرت إرسال البلدوزارات لتجريف مقر السفارة، بالطريقة نفسها التي تقوم بها الجرافات الإسرائيليّة بتجريف منازل المُجاهدين الفِلسطينيين الشّهداء في الأراضي المحتلة حتى لا تبقى لها أثر، ونمحو هذه المرحلة المُخجِلة من تاريخنا”.
في الموضوع نفسه، أكّد لي الرئيس الموريتاني أن السفير الأمريكي في نواكشوط كان أكثر غضبًا من السفير الإسرائيليّ عندما سمع بقرار اغلاق السفارة الإسرائيليّة، وقال لي بالحرف الواحد “إن وجود السفارة الإسرائيليّة في موريتانيا أكثر أهميّة بالنّسبة لنا من وجود السفارة الأمريكيّة”، وأضاف الرئيس “أن كل ضغوطه وتهديداته بثنينا عن هذا القرار باءت بالفشل”.
جميل هذا الشعب الموريتاني، وصادق حتى النّخاع في عروبته ووطنيّته، فقد أصرّت دولته على بناء مجسم كبير لقبّة الصّخرة في الميدان المُقابل للسّفارة الأمريكيّة، وزادت على ذلك بتغيير اسم الشارع الذي توجد فيه، وإطلاق اسم القدس عليه، حتّى يكون هذا الاسم على جميع مُراسلات السفير الأمريكيّ داخل موريتانيا وخارجها.
الرئيس الموريتاني، وهو جنرال سابق، أكّد لي أنّه يتمنّى على الشعب الجزائري الحِفاظ على القوات المسلحة لبلاده وهيبتها باعتبارها الضّمانة لوحدة البلاد واستمرار الدولة ومؤسساتها، وقال إن مُعظم مصائب العراق جاءت بسبب حل الجيش العراقي، وامتدح صمود الجيش السوري، وأعرب عن تأييده “المُبطّن” لقوات الجيش الوطني الليبي الذي يتزعّمه المشير خليفة حفتر، وتمنّى أن ينجح في مُهمّته في استعادة العاصمة طرابلس، ولم يُخفِ دعمه للمشير الآخر عبد الفتاح السيسي في مصر.
لاحظت في حديثنا الذي كان عبارة عن “دردشة”، ويتّسم بالعفويّة، بعيدًا عن التّسجيل والرسميّات، ولم أكن أحمل معي حتّى ورقة أو قلم لأخذ ملاحظات، أن الرئيس الموريتاني لا يكن الكثير من الود لدولة قطر، ويُحمّلها مسؤوليّة الكثير من الأحداث الراهنة، وأكّد لي أنّه لا يُشاهد قناة “الجزيرة”، وذكر أشياءً كثيرةً في هذا المِضمار ربّما أعرّج عليها في المُستقبل القريب.
سألت الرئيس ولد عبد العزيز عن أسباب عدم زيارته لدمشق، بعد أن تردّد أنّه سيكون الرئيس العربي الثاني بعد الرئيس عمر البشير، فقال لي إن كل ما قيل بهذه المُناسبة غير صحيح، ومُجرّد تكهّنات، ولم تكُن هُناك أيّ خطّة للقيام بهذه الزيارة في ذلك الوقت، ولكن “كل شي في وقته جيّد”، دون أن يُعطِي أيّ تفاصيل.
لا يُمكن أن نلتقي رئيسًا موريتانيًّا دون أن نسأله عن جيرانه الشماليين (المغاربة) وقضيّة الصحراء، وفاجأني بالقول “الغرب، والولايات المتحدة وأوروبا لا يريدون قيام دولة تفصل بين موريتانيا والمغرب جُغرافيًّا، وهُنا تكمُن المُعضلة، وكل ما تسمعه خارج هذا الإطار غير صحيح”.
مواضيع أخرى تطرقنا إليها في اللقاء الذي استغرق ما يقرب الساعة بعد ظهر يوم الاثنين الماضي (8 نيسان إبريل 2019)، واقتصر علينا وحدنا دون مستشارين، ودون تصوير، ولكن لا يُمكن عدم ذكر سؤال مهم يتعلّق بالمُستقبل، حيث سألت الرئيس ماذا ستفعل بعد أن تُغادر هذا القصر، هل ستعتكف في الصّحراء التي يعشقها كل الموريتانيين، وتعتزل السياسة، وتنخرط في الكتابة (ربّما الشعر) أم ماذا؟ أم هل ستعود إلى الحُكم في فترةٍ لاحقة، إذا فاض بك الحنين للسّلطة؟
ابتسم الرئيس، وهو ونادر الابتسام بالمُناسبة، وقال لي “أنا أنتمي إلى حزب سياسي، وسأظل أعمل في نطاقه، وأعزّز مُؤسّساته وأتابع الحياة السياسيّة والاقتصاديّة في البِلاد، وإذا كانت هُناك حاجة للعودة، وبرغبةٍ شعبيّة وحزبيّة، عبر صناديق الاقتراع، سأدرُس الأمر، وحينها لكُل حادث حديث”.
لم أرد أن أكون ضيفًا ثقيلًا، فلم أطلُب لِقاءًا صِحافيًّا، وأنا أتحاشى المُقابلات الصحافيّة التقليديّة، فمُنذ لقائي الشّهير مع زعيم تنظيم القاعدة الشيخ أسامة بن لادن لا أذكر أنّني أجريت حديثًا صحافيًّا مُسجّلًا وتقليديًّا، ولهذا قرّرت الرّحيل، خاصّةً أنني شعرت، ومن خِلال “كيمياء” وجه الرئيس، أنّ وقتي انتهى وهذا ما حدث.
بعد أن غادرت، وبعد أن جلست في السيّارة طلبت من السائق أن لا ينطلق، وعُدت إلى داخِل القصر، وطلبت من رجال البروتوكول (كانوا اثنان فقط والثّالث حاجب) أن اسأل الرئيس سُؤالًا مُهِمًّا، ففتحوا لي الباب، وكان قد انتقل إلى مكتبه المُتواضع جدًّا، وسألته عمّا إذا كان يسمح بنشر بعض ما دار في الحديث، قال لي انشر ما تشاء.
***
اعترف أنّني وجدت حُبًّا وتقديرًا في هذا البلد (موريتانيا) لم أجده في أيّ بلدٍ آخر، فقد كدت أن أفقد ثقتي بالكثير من المُسلمات، وبعض المواقف والمشاعر الشعبيّة العربيّة الإسلاميّة الوطنيّة، والسّبب هو الجيوش الالكترونية المُضَلّلة على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي مُعظم الامبراطوريّات الإعلاميّة الخليجيّة دون أيّ استثناء، ولكن الشعب الموريتاني الأصيل أعاد إليّ الثّقة بأنّ هذه الأمّة ما زالت بخير، وما زالت تقبِض على قيمها وعقيدتها وثوابتها، بكُل قوّة وإصرار، يُعارضون التّطبيع بشراسة لم أرها في جميع الدول العربيّة، وينفجِرون غضبًا حين يتم ذكر الغزو والحِصار الأمريكيين للعِراق، وإعدام صدام حسن.
المرأة الموريتانيّة ذات الوجه المُشرق المَلفوح بسُمرة شمس الصّحراء، وأسماؤها العربيّة الإسلاميّة المُتميّزة، وشِبه المُنقرضة، في مُعظم الدول الأُخرى، تلعب دورًا سياسيًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا بارزًا، ويكفي الإشارة أن الدعوة للزيارة جاءت من قبل شبكة الصحافيّات الموريتانيّات، وكان هذا أحد أسباب قُبولي لها، حيث أشرفت الشّبكة على تنظيم المُلتقى الإعلاميّ الأوّل، حيثُ لا “كِبار قوم”، ولا “جوائز″، ولا محسوبيّات، ولا نِفاق مهنيّ أو سياسيّ أو قبليّ، أو تمييز سياسيّ، أو مناطقيّ، إنّه التّسامح الحقيقيّ في أبرز صُوره وأشكاله.
معظم النساء الموريتانيات يَمِلن إلى الامتِلاء جسمانيًّا، أو بالأحرى “سمينات”، وقيل لي إنّ السّمنة هي أحد معايير الجمال، وعندما سألت إحدى الطّالبات الموريتانيّات “الرّشيقات” التي كانت بين حُضور مُحاضرتي في جامعة نواكشوط، كيف شذّت عن هذه القاعدة؟ قالت إنّها تُمارس الرياضة، وتُحافظ على قوامها، ولكن مُعظم الرجال، وحتى الشّباب ما زالوا يُفضّلون المُكتنزات، ولهذا لم تتزوّج بالسّرعة المَأمولة.. وتمنيّت لها زواجًا سريعًا، وتحسّرت على أيّام الشباب!
الظّاهرة الأخرى التي تتباهى بها السيّدات الموريتانيّات أن الزواج سهل والطّلاق أسهل، فمُعظمهن يحتفلن بطلاقهن، ويتهافت عليهن طلاب الزوّاج حتى قبل أن يكملن عدّتهن، وكلّما تعدّدت مرّات زواج المرأة كلما زاد مهرها والإقبال عليها.
أختُم بالقول بأنّني تعرّفت على بلدٍ جميل مُتواضع يعيش حياة هادئة، مُتصالح مع نفسه، ومع جيرانه، مُتمسّك بهُويّته العربيّة وعقيدته الإسلاميّة، قانع بإمكانيّاته الماديّة المحدودة، وحياته البسيطة التي تجمع بين الأصالة والحد الأدنى من الحداثة، وما زال يستمتع بالتّمر وحليب النّوق، وكان لي من الاثنين نصيب.
ربّما تكون أحكامي غريبةً في نظر البعض، وربّما يُجادل بعض البعض بأنّ زيارة بضعَة أيّام ليست كافية لإطلاق الأحكام، ورسم صورة ورديّة، فهُناك نواقِص عديدة، وهذا صحيح، ولكنّني أكتب انطباعاتي هذه، ومن موقع المُنحاز لهذا البلد وأهلِه، وقولوا ما شِئتُم!