في الوقت الذي تتهيأ موريتانيا لخوض انتخابات رئاسية هي الأولى منذ الإطاحة -بأقل الخسائر- بالرئيس الموريتاني السابق (معاوية ولد أحمد الطايع)، يُعلن محمد ولد عبدالعزيز الذي تزعَّم الحركة الانقلابيَّة على سلفه (معاوية) وخَلَفَهُ في حكم الجمهوريَّة الإسلاميَّة الموريتانية عدم ترشيح نفسه لمنصب الرئاسة، وبقدر ما يعكس هذا الإعلان احترامه لنفسه ولشعبه ولدستور دولته يُترجم رغبته الجادَّة في إرساء المسار الديموقراطي بشكلٍ أبدي، فيكون -إن هو وفى بوعده وترك خوض المعترك الانتخابي لمتنافسين ولم يتسبب بما قد يعيق سيره- قد خطا خُطوةً غير مسبوقة في عالمنا العربي الذي عُهد عن حكَّامه التشبث بكراسي السلطة باستماته شديدة، بل إنَّ أكثرهم لم يعُد يكتفي بالبقاء في السلطة طوال حياته بل يستغل سلطته ونفوذه للعمل على تعديل المواد الدستورية وعلى سنِّ القوانين والتشريعات وكذا إصدار المراسيم والقرارات التي تضمن انتقال مقاليد السلطة إلى أولاده من بعده كما لو كانت البلاد والعباد ميراثًا آل إليه من أبيه كما آل إليه من جدِّه.
لكن بعض المتابعين يسيئون الظن في الرجل ويشككون في إمكانية إيفائه بما وعد متذرعين باقتران تصريحه بعدم الترشُّح برغبته الجامحة في الدفع بوزير دفاعه متوقعين تسخير مقدرات الدولة التي ما تزال في متناول يده لدعمه واستدرار تأييده، وفي حال فوزه -وذلك هو الأرجح- فلن يخرج عن طوعه حتى يعود في انتخابات صورية لاحقة للتربُّع من جديد في موضعه ضاربين مثلاً المثل على ما يتوقعون حصوله بما حصل من تناوب على كرسي السلطة في روسيا الاتحادية حينما تظاهر الرئيس فلاديمير بوتين بالعزوف عن الترشُّح للمنصب ذاته، لكنه دفع -بالمقابل- لملء المنصب برئيس وزرائه (ديمتري ميدفيديف) الذي اتضَّح أنه لم يكن سوى مقلب لكونه صديقه المقرب والذي اقتصرت فترة رئاسته -التي كانت أشبه بسحابة- على الاحتفاظ المؤقت بكرسي السلطة وفي ما يُشبه الدُّعابة، ثمَّ لم يلبت الأمر -في انتخابات شكليَّة أقرب إلى المسرحيَّة- أن عاد الأمر إلى نصابه وعاد الحقُّ -في احتكار (الكرملين)- إلى أصحابه.
لكن هذا التشكيك اسْتُهْجِن واعتبر -في نظر متابعين آخرين- مجرَّد ضربٍ من التكهُّن وفرضيَّات قائمة على سوء الظن التي لا يستبعدون أنها نتاج ما تختزنه صدور بعضهم من الضغائن والإحن وما تنطوي عليه من حقدٍ آسن، وبالتالي فإنها -لعدم استنادها إلى الحد الأدنى من اليقين- تظلُّ نوعًا من التخمين المنهي عنه لا محالة في نصوص قطعية الثبوت والدلالة منها قول الله -جلَّ جلاله-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) سورة الحجرات من الآية: (12)، بل إن الاعتماد عليه مُجافاة للحق لقول الحق -تبارك وتعالى- في محكم كتابه: (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) سورة النجم من الآية: (28).
لذا فإن من الصواب عدم استباق الأحداث والتكهُّن بحدوث الممكن وغير الممكن، والعمل -ما أمكن- على تغليب حسن الظن، لما من شأنه إبقاء المناخات الإيجابية هي السائدة أمام جماهيرنا العربية لتظن بالرجل خيرًا وتتوسَّم فيه حتى مصداقيَّة عابرة، بعد أن باتت المصداقية لدى الساسة العرب عملة نادرة لا سيما ولم نعهدهم -منذ عقود زمنية غابرة- إلاَّ جماعات متناحرة وشخصيات ماكرة غادرة.
وما دامت تصريحات الرجل ووعوده بعدم ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة قائمة، فليس من المنطق أن نتوقَّع حدوث الشرِّ في مقابل ما يعد به جماهير شعبه من وعود تبدو في ظاهرها حسنة، بل إن من الإنصاف والتحفيز على الإبقاء بالوعود بعيدًا عن أيٍّ من وسائل الالتفاف أن نعتبره -بالنظر إلى تصريحاته- ظاهرة جديرة بالتركيز عليها والعمل -بكل الوسائل والسبُل- على لفت الانتباه إليها، كما يجدر بنا أن نضرب به المثل الأول للذين يمكن أن يتركوا كراسي السلطة من الحكام العرب طواعية، لعلَّ ذلك يجد له لدى أنظمة عالمنا العربي آذانًا واعيَة ونفوسًا راضية لا تلبث -في لحظات تجلي وصحوة- أن تتخذ من هذا الرجل قدوة، فتتمثل صنيعه وتحذو حذوه وبما يُسهم -خروجًا ممَّا تقع فيه الأمة من ورطة- في خلق مناخات ملائمة للتناوب السلمي للسلطة خلافًا لما اعتدنا عليه من ديمومة سيطرتهم عليها بالقوَّة، لما يمكن أن يترتب على ذلك التغيُّر من انعكاسات طيبة على ما بات يفصل الحكام عن جماهيرهم من هوَّة نتج عنها بلوغ واقع الكراهية بين الراعي والرعيَّة مستويات قياسيَّة وحدًّا لا تقِرُّه النفوس البشريَّة السويَّة فضلاً عن النفوس المسلمة المرتبطة بربها برباطٍ إيمانيٍّ قوي التي لا يمثل -بالنسبة لها- الواقع الحياتي الدنيوي سوى محطة عبور إلى ما ينتظرها من نعيم أخروي.