“نجلس على كثيب رملي ما. لا نرى شيئا. ولا نسمع شيئا. ولكن رغم ذلك هنالك شيء ما يسطع في صمت.” أنتوان دسينتأكسبيري
ـ1ـ
يتندر الأجانب المتابعون للشأن الموريتاني عادة وهم يبالغون قليلا بأنه محكوم بأفقين: أفق الانقلاب الماضي وأفق الانقلاب القادم. وأكثر ما يهم الناس عادة في أي حاكم جديد هو أنه استطاع أن يزيح الانقلابي السابق قبل أن يزيحه الانقلابي اللاحق.
في إحدى النكت الافريقية التقليدية نصف المفبركة أنه أُعـلـِن عن نجاح انقلاب في بلد ما. فتجمهر مواطنوه بحماس انتظارا لظهور الانقلابي الجديد. الأخير كان يتدرّب على الخطاب الذي حُضّر له : برنامجه السياسي والاقتصادي إلخ. أراد أن يفاجئ مواطنيه ببرنامج من النوع الثقيل يسمح له بسجنهم ساعات أمام المنصة. عندما صعد على الأخيرة بدأ كلامه بالتعبير عن “شعوره” : أنا سعيد. فتركوه وهم يهتفون ويصفقون دون انتظار كلمة أخرى : يحيى سعيد، يحيى سعيد… وبقي السعيد يتهجى خطابه لوحده أو مع حراسه. المهم في سعيد الوقت هو اسمه لأنه يسمح بالتصفيق له كبطل أبدي ثمّ كمخلوع أزلي.
ـ2ـ
أما مواطنو موريتانيا (الاسم الروماني الذي نجح المغامرُ الكورسيكي ‘كزافيي كوبولاني’ أن يغطّـي به على أسماء كثيرة “متغيرة” عُرفتْ بها صحراء السيبة) فيضيفون إلى “أحاديث” الانقلابات تندّرهم على التعديلات الوزارية. يقال بسخرية إن الأوساط الإدارية و”السياسية” بشكل خاص لا تملّ من الحديث عن تعديل وزاري جديد. “مخيب” قد أُعلن عنه للتو أو “حاسم” سيعلن عنه بعد أيام. في السنوات الأخيرة انضافت الحوارات السياسية إلى التعديلات والانقلابات. أصبح في كل فترة هنالك حوار “كأسلوب حضاري” سينهي “الأزمة السياسية”. هكذا دفعة واحدة. وطبعا هنالك قبله وبعده حوارات أخرى – حضارية طبعا – لحل الأزمات التي تعترضه أو تلك التي تنشأ عنه. ثمّ حوارات حضارية إضافية حول هذه الأخيرة إلخ.
لاحظ مرة أحدُ الكتاب أن نواكشوط، فضلا عن اسمها ومشتقاته، تعاني من العواصف الرملية ومن عواصف أشدّ من الوزراء والوزيرات (ولعلّه يضيف لهم اليوم المحاورين والمحاورات)، من الجدد أو من “المجدّد لهم”. وإن هذه العواصف الوزارية لها تأثيرات هائلة ملموسة كالتفكّك العائلي والاختناق المروري والبطالة وتغول الجفاف وهجرة الشباب وتعبئة الانتماءات التقليدية. وتضمّ أشياء أخرى كالتطرف الديني والتطرف اللاديني وتقلّب أسعار العملات الأجنبية وزحف الرمال والاحتباس الحراري… والقائمة طويلة.
ـ3ـ
سواء وصلتْ صخرة سيزيف إلى أعلى الجبل أم لم تصل وأيا يكن “الحوار الحضاري” الجديد فليس من مصلحة أحد، أيا يكن تموقعه في السلطة أو في المعارضة أو خارجهما أن يتمّ المساس بالموادّ المحصنة في الدستور. حتى لو اتّفقت كل مكونات “الطبقة السياسية” على تعديل هذه الموادّ فإنّ ذلك لن يزيد المخاطر إلا حدّة. فخريطة ردود فعل الأغلبية الصامتة قد تغيرّتْ معالمها كثيرا. مبدئيا ومصلحيا يَلزم أن تبقى تلك الموادّ كلّيا خارج “البلابر”. ذلك ما تقتضيه المسؤولية حتى في حدّها الأدنى. ما حدث في عدد من الدول القريبة التي كانت تتمتع بسلم إجتماعي أقوى يكفي لإدراك مستوى الجنون الذي سيعنيه أي تعديل مباشر أو غير مباشر للمواد الدستورية المحصّنة.
ـ4ـ
في القافلة التي يرسم بجدارة أحمد ولدعبد القادر في بداية روايته الشهيرة “الأسماء المتغيرة” (دار الباحث، 1981) تتحدّد أشياء كثيرة لا أملّ من استحضارها. فيها يتوقف شريط أحلام “سلاك” الطفل الذي حمَلَ اسمه الثاني للتو كأول جرعة من عذابات تجارة الرقيق في أواخر القرن التاسع عشر. من اسم إلى آخر ومن عبودية إلى أخرى سيعرف بطل “الأسماء المتغيرة” كل أنواع مصاصي الدماء في الصحراء، من أبناء البلد ومن الأجانب. سيعرف قسوة الإنسان على الإنسان في محتواها المحض، قسوة ” الحجابين والجنود الفرنسيين”. تتابعَ التحول حتى أصبح اسمُه (في آخر الرواية) بابا الحكيم. وزفر وهو على فراش الموت بعد أن بلغ التسعين “يا إلهي لشدّ ما تعذّب أبناء الأرض. نعم تعذبتُ فوق طاقة تحملي”. في عقده الأخير، في أواخر الستينات وبداية السبعينات، حين انخرط بابا الحكيم في الحركة النضالية، ليمنح عطفه لقادة الحركات الشبابية، فضّل طبيعيا أن يناقش معهم الفرْق بين الحرية الفردية والحرية الاجتماعية.
اليوم تبدو الأسماء وكأنها ما تزال مولعة بالتغير. ويبدو بابا الحكيم وقد اضطر للخروج من قبره الثالث مرات، عكسا لما اعتقد، ليتساءل مرة أخرى “يا إلهي هل سينجح أبنائي في القضاء على العذاب؟”. تحتاج الصحراء إلى تغير يتجاوز الأسماء ولكنها لا تحتاج إلى عذابات إضافية.
* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل