في البداية لا شك أنكم تعلمون أنني ككل موريتاني " جواق " ، لا أنتمي لمعارضة ولا موالاة .
وككل موال أو معارض ، لا يهمني هل تصدقون ذلك أم لا .
تقوم الحياة السياسية على ركيزتين ، تستمد كمالها منهما بالتساوي .
الأولى : نظام حاكم يعمل بأساليب معهودة وهي تورية الفشل وتضخيم النجاحات .
والثاني : معارضة تقوم بدور كلاسيكي في الأساس ، وهو كشف الفشل وتأهيل الاستراتيجيات والببرامج البديلة ، وهي في المقابل تقلل من أهمية نجاحات الخصم وتكشف ألاعيبه وتقزم ما يضخمه .
بين هذين الدورين يحصل مرق الرأي العام المستنير ، الذي يدرك مبالغة الطرفين ويتحين الحقيقة بينهما .
تلاحظون أنني وضعت عبارة " معارضة النظام " بين مزدوجتين ، وذلك للتفريق بين المعارضة التي تعارض النظام وتلك التي يستخدمها النظام .
ودعوني أعرج على نقطة هامة في حيثيات العمل السياسي من خارج حيز السلطة ( المعارضة إصطلاحا ) .
ينبغي للمعارضة أن تنطلق من ثناية متزنة وهي الدوافع والمبادئ ، وهناك لبس بين المصطلحين ، فالأول يعني الظروف المحركة لفعل المعارضة والمستحثة لأدائها ضمن الظروف والأحداث ، وهي ( أي الدوافع ) تأخذ حمولتها من الوقائع والأحداث المتحولة والمتنحية عن المبدأ وهي تشبه إلى حد كبير متغيرات المعارك اللحظية التي تستدعي من الجنرالات اجتهادا يناسب التطورات والبيئة والجغرافيا وتكتيكات الخصم وضرباته المباغتة .
أما المبادئ فهي الهندسة الكلية للعمل السياسي ، وهي كالخارطة الجغرافية لا تتغيروإنما تتغير تفاصيل الحركة داخلها وفق عبقرية المنظر والمخطط والمنفذ .
في حيز الدوافع قد يتسمر الخصم مع خصم تقليدي أقل ضررا من الخصم الجاثم خطره على الكل ، وقد تتحد القوى المختلفة جزئيا في وجه قوة آزفة قد تنكل بالجميع ، وفي هذا الحيز لا تكون المبادئ هي المرجع الأساسي للفعل السياسي الموفق والمؤلف لإدارة أزمة مؤقتة .
لكن قوة هذا الكل لا تكمن في توحده كما تعتقد معارضتنا الموقرة ، وإنما تستمد قوة الكل من طاقة المرجعية المبدئية لكل حليف ضمن التكتل المؤقت ، لأنه هو مصدر ثرائه الكمي والنوعي ، وهو معين منتسبيه ورابطهم وعروتهم .
ماذا تعني تلك المقدمة وما علاقتها بالموضوع ؟
حين تفشل المعارضة تتغول السلطة
وحين تتغول السلطة تفشل المعارضة .
وتلك جدلية تشبه جدلية البيضة والدجاجة ، لكنها تقوم على مقدمات وتحتاج إلى تاريخ .
السيناريو كالتالي :
المعارضة على ضعفها تلملم طاقاتها لإستحقاقات 2019 ، وهي استحاقات لاتمتلك خيار مقاطعتها وفق القانون الجديد للأحزاب .( أغلب الأحزاب الكبيرة ) .
وأرهاصات الحديث هي عن خيار واحد سيشكل الحد الأدنى من النجاح الذي ضنت به الساحة السياسية لسنوات طويلة على تلك المعارضة .حيث أصبحت مندرة المتندرين وشاعت حقيقة ضعفها وفشلها كما لم تفعل من قبل .
السلطة على الضفة الأخرى تنظر برتقب ، تماما كما ينظر الأسد المتخم شبعا لصغار الغزلان ( قفزة واحدة تكفي للقضاء عليه ، ولكن دعه يسمن ) .
والسلطة تحتاج لمعارضتين ، معارضة مراهقة تحدث ضجيجا وأخرى هرمة تحافظ على رمزية الديمقراطية .
وفي خضم مفاوضات المعارضة تأتي رسل الحوار وسط تحركات واسعة للملمة شعث القبائل وتحرك المسولين والنافذين وتساقط المنتسبين على كشوف الحزب الحاكم ومنافع أساطينه .
إنه الأمر الواقع يا معارضتنا الكريمة ..
وما ترونه أمامكم هو قطب الرحى الثاني ، مشاركة إجبارية في الاستحقاقات ، و ساحة شعبية مغلقة ومكتظة بالسيارات الفارهة والإجزال المالي .
" ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون "
"ربنا أنزل علينا مائدة من السماء" .
الباب العالي :
1 ) إفتحوا حوارات فردية وسرية مع قادة الاحزاب .
2 ) أشعروهم بعد نهاية الحوارات بأنهم ليسوا وحدهم من تم الحديث معه خلف الستار .
3) توصلوا معهم لحل يرضيهم فرادى ، ليسهل جمعهم عليه ( السرية ملزمة ) .
4 ) سربوا خبر مفاوضاتهم معنا للرأي العام .
5 ) حافظوا على أذكار الصباح والمساء .
علم وينفذ ..
رئيس الحزب الحاكم يصرح بأن المعارضة سربت ماتدعي بأنه بنود من الاتفاق ( السري ) وهي ليست كذلك .
صحيح أنها مجرد تغريدة ، لكنها كافية لخلق موجة حرج مزدوجة وعنيفة .
- المعارضة التي انكشف أمرها لبعضها ( تفاوض فرادى بسرية تامة في الوقت الذي تحرص على الاجتماعات المنتظمة للتنسيق ل 2019 ) .
وتلك ضربة تكتيكية في الناحية الفنية للتنسيق السياسي المشترك .
- المعارضة تنكشف أما جماهيرها ، ( تفاوض دون علم مؤساستها ولا منتسبيها ، بينما لازالت تجلجل بأطروحات النظام الفاشل والعنيد والمتكبر الصلف ) .
وهي ضربة تتعلق بالمبادئ الفردية للمؤسسات الحزبية ، وأسفين تم دقه بينها وبين منتسبيها ومناضليها .
من سينسق مع من ؟
ومن سيثق بمن ؟
ومن لايزال ظهره آمنا بشعبية ملتزمة مبدئيا خلف قيادات غير ملتزمة بالمبدئية ؟
هذا فخ بسيط وبدهي ، لكنه كان بقعة الماء الوحيدة التي تراها المعارضة في شواسع السراب الذي أنهكتها مطاردته من داكار حتى اليوم .
ماذا بقي منتظرا من ثنائية كان ينبغي أن يتوازن فيها صوت وفعل المعارضة مع صوت وفعل السلطة ؟
بقي علينا كمواطنين مغلوبين ومسحوقين تحت دمار الصراع ، أن نواجه مصيرنا في خلق بدائل سياسية تعبر عن وجودنا وتتحدث لغتنا ، وترفع ضمائرنا من وحل الخذلان .
أمامنا سنوات من فعل السلطة المطلق ، وأمامنا حقب من مزامنة الهيمنة ، وتفريخ الوضع القائم .
كان علينا أن نصغي جيدا لخطاب معارضتنا الذي لا يتحدث عن تأميم تازيازت ، ولا عن استراتيجيات ساحرة ومقنعة لإنقاذ التعليم والصحة والإستثمار ومحاربة الفقر والفساد ...
كان علينا أن نتحسس بوادر الفشل قبل الوصول لهذا الحد من التهافت و " السلعة " وقبل أن تكون معاضتنا مجرد ممسحة لطاولات المفاوضات .
كان علينا أن نقف في وجه السلطة وهي تدمر بشكل منهجي مؤسسة المعارضة وتغتال صوتها وتدشن مراسم نعشها إلى هذا المصير .
كان علينا أن نصيغ معادلة مؤسسية وفكرية نوالي ضمنها ونحن يقظون ،ونعارض ونحن متيقظون .
هذا المنشور ليس تعبيرا عن فشل جزئي لطيف من أطياف السياسة وإنما تعبير عن رداءة المنتج السياسي برمته في بلادنا .
وهو بذلك نداء لتلافي ما يمكن تلافيه ، قبل أن تكون هذه البلاد دولة بين الأغنياء منكم .
وفي الختام يمكنكم أن تحرروا عبارة " معارضة السلطة " من تينك المزدوجتين إن كان إلى ذلك سبيلا .
وفي الختام.
نحتاج مؤسسات سياسية تزن وزنا على الأرض غير ماتفعل الريشة .
نحتاج لمعارضة للسلطة لا تفصل بينها وبينها لام الملكية ، ونحتاج لسلطة تتحصن بالمنجزات لا بإخراس الأصوات .