بدأ مايكل بنس نائب الرئيس الامريكي جولة في المنطقة العربية تبدأ بزيارة القاهرة، واللقاء بالرئيس عبد الفتاح السيسي، تحت عنوان اعادة احياء العملية السلمية بين العرب والاسرائيليين على اساس “صفقة القرن”، والقبول بالقرار الامريكي بتهويد مدينة القدس المحتلة، ونقل السفارة الامريكية اليها، واعتبارها عاصمة ابدية لدولة الاحتلال الاسرائيلي.
كنا نتمنى لو ان الرئيس المصري، والعاهل الاردني الملك عبد الله الثاني، قاطعا هذه الزيارة، واشترطا لقبول لقاء بنس بتراجع حكومته عن قرارها الاستفزازي بإسقاط الهوية العربية والاسلامية عن القدس المحتلة، احتراما لمشاعر شعبيهما الغاضبة والمتأججة ضد هذه الخطوة، ولكنهما، ونقولها بكل اسف، لن يستجيبا لامنياتنا ولا لمطالب شعبيهما، والمرجعيات الدينية المسيحية والاسلامية ايضا، وسيفرشان السجاد الاحمر للضيف الامريكي الزائر.
كان قرار الدكتور احمد الطيب شيخ الازهر، والبابا تواضروس القائد الروحي للاشقاء الاقباط في مصر والعالم العربي بمقاطعة زيارة نائب الرئيس الامريكي، ورفض اللقاء به قرارا حكيما، مشرفا يعكس وطنية هاتين المرجعيتين ومواقفهما المسؤولة في الحفاظ على الهوية الاسلامية والمسيحية للمدينة المقدسة، والثوابت الرئيسية للقضية العربية والفلسطينية.
اختيار القاهرة لكي تكون المحطة الاولى لزيارة نائب الرئيس الامريكي لم يكن صدفة، فالادارة الامريكية تراهن على دور مصري لتسويق “صفقة القرن” المشبوهة، وممارسة الرئيس السيسي ضغوطا على السلطة الفلسطينية لتخفيف معارضتها لها، وقرار واشنطن نقل السفارة الامريكية الى القدس المحتلة، ورفع المقاطعة عن لقاء المسؤولين الامريكان، وعلى رأسهم المستر بنس الذي اتخذته كرد على الانحياز الامريكي الصارخ للمواقف الاسرائيلية.
***
نائب الرئيس الامريكي الزائر يمثل ادارة امريكية مكروهة عالميا، وشعبيتها هي الاسوأ في تاريخ الادارات الامريكية، بسبب سياساتها العنصرية المعادية للعرب والمسلمين، وكل الشعوب الاخرى “غير البيضاء”، ولا يمكن ان ننسى في هذه العجالة وصف الرئيس دونالد ترامب للاشقاء الافارقة بأنهم “حثالة” لا يريد مهاجرين من بلدانهم، ونتعفف عن استخدام الترجمة الحرفية لكلماته في هذا المضار.
مصر يجب ان تكون الدولة الاكثر معارضة لهذه الادارة وسياساتها، ليس بسبب عنصريتها، وتهويدها للقدس المحتلة فقط، وانما لانها تتعاطى معها ورئيسها بفوقية، وكتابع لها، تستطيع ابتزازه ماليا، وتريد فرض صفقة قرنها عليها، واقامة الدولة الفلسطينية على قطعة من اراضيها في شمال سيناء، حيث يكون قطاع غزة “الموسع″ هو هذه الدولة، واعطاء الضوء الاخضر لدولة الاحتلال لضم الضفة الغربية، وترحيل اعداد كبيرة من اهلها الى الاردن الذي سيتحول الى الوطن البديل.
ومن المفارقة ان الاردن الذي سيكون المحطة العربية الثانية في جولة بنس رضخ للضغوط الامريكية، واعاد فتح السفارة الاسرائيلية في عاصمته، كخطوة لانجاح هذه الجولة، مقابل “اعتذار” اسرائيلي منقوص عن استشهاد ثلاثة من مواطنيه برصاص رجال امن اسرائيليين، ودون اعتقال هؤلاء والحصول على ضمانات مؤكدة بتقديمهم الى العدالة.
امريكا تستخدم سلاح مساعداتها المالية لكل من الاردن، ومصر، والسلطة الفلسطينية لاذلالهم، وفرض املاءاتها عليهم، وبما يخدم السياسات الاستيطانية الاسرائيلية، ويكرس تهويد المدينة المقدسة، ولعل قرار ادارتها الاحدث بوقف 60 مليون دولار من مساعداتها لوكالة غوت وتشغيل اللاجئين (الاونروا)، هو التطور الاخير الذي يعكس سياسات التجويع هذه، والبدء باللاجئين الفلسطينيين لترويع وترهيب الدول الاخرى المتلقية للمساعدات الامريكية، وخاصة الاردن ومصر.
لا نطالب مصر والاردن بأن تسيران على نهج رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ اون في تحدي الادارة الامريكية وتركيعها، وكشف زيف تهديداتها، وان كان من حقنا ان نفعل ذلك، ولكن نطالبهما بإتخاذ مواقف صلبة رافضة لهذا الاذلال الامريكي، والحفاظ على الحد الادنى من الكرامة والهيبة العربية، لاننا على ثقة بأن الشعبين المصري والاردني لا يمكن ان يقبلا بهذا الاذلال والمهانة لهذه الكرامة وهذه الهيبة، اللتين تُنتهكان على ارض القدس المحتلة، بل والاراضي العربية والاسلامية كلها على ايدي اساليب الغطرسة والعنصرية الامريكية.
***
الشعبان الاردني والمصري تحملا الجوع والحرمان بشكل مسؤول حماية لبلديهما من الانزلاق الى هوة عدم الاستقرار والانهيار الامني، مثلما تحملا غلاء المعيشة نتيجة الضرائب الباهظة ورفع اسعار الخبز والسلع الضرورية الاخرى، ومن حقهما ان تتجاوب حكومتهما مع مشاعرهما ومطالبهما الوطنية المبدئية والوقوف بقوة في وجه الزوار الامريكيين وحكومتهم، ورفض طروحاتهم العنصرية الداعمة للسياسات الاسرائيلية في تهويد المقدسات، وابتلاع ما تبقى من الاراضي المحتلة، ومن المؤلم اننا لا نرى اي توجهات في هذا الصدد، وانما استسلاما كاملا لهذه الاملاءات الامريكية.
قد تكون هبة الدفاع عن القدس المحتلة وهويتها العربية والاسلامية قد تراجعت قليلا خارج الاراضي المحتلة، ولكن الامر المؤكد ان النار ما زالت ملتهبة تحت الرماد، والاحتقان يتضخم، والانفجار بات وشيكا، لان الشعوب العربية قد تتحمل الجوع اذا كان مقترنا بالكرامة وعزة النفس، ولكنها قطعا لن تتحمله، وستنتفض ضده، اذا كان مقترنا بالتفريط بالحقوق الوطنية الاساسية، وعلى رأسها الهوية العربية والاسلامية للقدس المحتلة.. والايام بيننا.