هناك مثل علميّ ديني معروف، مفاده أننا لو افترضنا أن الأحياء الدقيقة في فم إنسان ما هي كائنات مجهرية متطورة من الناحية العلمية، فإن هذا الشخص لو قال كلمات مثل: "الله أكبر" أو "لا إله"، فإن التطور العلمي سيفسّر صوته ذلك تفسيراً طبيعيّا بأنه نتاج جهود أعضاء وعضلات (كونيّة)، مثل الحنجرة والقصبة الهوائية واللسان والحجاب الحاجز.. ولن تستطيع هذه الكائنات الدقيقة بغير "الوحي" إدراك أن لتلك الكلمات معنى آخر في عوالم كونيّة أكبر وأوسع.
الإشكال الإيماني لدى علماء الطبيعة والفيزياء لا يتعلق بحجم تطور "المعلومات العلمية"، وإنما بما يكشف عنه ذلك التطور من حجم ل "المجهولات العلمية". وهكذا ظلّ من يميل منهم إلى الإلحاد أكثر تواضعاً وأقل وثوقية. وبدل الحسم في وجود إله أم لا، يكتفي بالقول بأنه "غير ضروري" لخلق الكون برأيه، كما هو حال ستيفن هاوكينغ مؤخراً. هذا في الوقت الذي بقي فيه أبرز العلماء “Scientists” عبر التاريخ، مثل غاليليو ونيوتن وديكارت وباسكال، متديّنين. وظل أنشتاين يكرر بأن: " العلم بدون الدين أعرج، والدين بدون العلم أعمى".
مع ذلك، وفي ما يتعلق بالعلوم الإنسانية (فلسفة، وعلم نفس، وعلوم اجتماع وسياسة وغيرها)، فعلى الرغم من ضرورة إعلاء المسلمين من شأنها، استحضاراً لكون "عصر الأنوار" هو منطلق الثورة الصناعية، وأن أي نهضة حقيقية لا بد لها من أرضية فكريّة مؤسِّسة ومخطِّطة، فإن لتلك العلوم (وخاصة علم الاجتماع) علاقة بالإيمان والإلحاد في مجتمعاتنا تجعل الاهتمام بها أكثر إلحاحاً.
للأسف، لا يزال المسلمون (والمتدينون بشكل أعم) بحاجة إلى بناء عدّة نقدية قادرة على تفكيك الفرضيات العلمانيّة والوضعيّة الحاليّة لبعض الإنسانيات التي تأثرت بالموقف المعادي للدين لمنظّريها، وبالصراع بين الكنيسة الكاثوليكية ورجال العلم. وأبرز ذلك ما يتعلق من تلك العلوم بسوسيولوجيا الدِّين وسوسيولوجيا المعرفة.
فطالما أن علم الاجتماع، كغيره من العلوم "غير الحقة" لا يقدّم خلاصات قابلة للتدقيق بطريقة "العمى المضاعف" Double-blind (التي لا يَعرِف فيها المجرِّب ولا المجرَّب عليه تفاصيل التجربة، والمستخدمة في العلوم الطبيعية للتخفيف من الانحياز المسبق "Bias")، فقد ظلّت فرضياته المتخاصمة مع الدِّين، بعد إقصائه من مصادر المعرفة، بارزة في أطروحات الملحدين وأصحاب "تاريخانيّة النّص الدِّيني"، ومقلقة أيضاً للدّارسين الاجتماعيين الذين لا يمتلكون العدّة النقدية المناسبة. وهو ما عبّر عنه مرّة أحد أساتذة جامعة جورج واشنطن الأمريكية تحت عنوان "حين كدت أفقد إيماني بسبب دوركهايم Durkheim".
أما "العلميّون" فلا خوف عليهم من إلحاد منطلقه العلم الحديث. وإذا رأيت الشخص يحاول، بوثوقية، أن يجعل المسلّمات العلميّة في صراع مع الدِّين والتّدين فاعلم أنه "غير علمي" قطعاً، أو أنه يعيش أوهام الجرعة العلمية الأولى. فقد قال عالم الفيزياء الألماني، والحاصل على جائزة نوبل، ورنر هيزنبرغ Werner Heisenberg، بأن:
"أول رشفة من كأس العلوم الطبيعية تحوّلك إلى ملحد، ولكن 'الرّب' ينتظرك في قعر الكأس".
د. عبد الله بيّان