تكثر هذه الأيام كتابات "فرسان القلم" الذين ظنوا أن الوقت قد حان للبوح بما أخفت صدورهم طوال عقدين، من حقد على رجل ما نقموا منه إلا إرادته بناء وطنه، والرقي بشعبه!!! كان ذلك متوقعا من سياسيين ينتمون إلى أي حكم يتوسمون فيه تحقيق بعض مصالحهم فيتقربون إليه بثلب سلفه والتشنيع عليه. ولا يحزن السلف لغمطهم إياه، ولا يفرح الخلف بتزلفهم له؛ إذ فعلهم مثل قولهم إنشائي لا يحتمل الصدق ولا الكذب...
لكن، أن ينسج شيخ كبّار على منوال "التبر المسبوك في نصيحة الملوك"، فيتصدر للنصح، دون التقيد بصفة "الناصح الأمين"، فإن ذلك يستدعي "بيان ما خفي في الرسالة الغزوانية"... فلم تزل الرسائل تؤلف، في أغراض مختلفة، والتي بين أيدينا في النصح لرئيس منتخب، زعم كاتبها! وقد اشترط عبد الحميد الكاتب في متعاطي هذا الغرض أن يكون "... مؤثرا العفاف والعدل والانصاف..." لكن ابن مزيد، في رسالته، أورد قالة أسفّت وما عفت، وتجنت وما أنصفت، فأسقطت بذلك دعواها وبان فيها هواها... فقد استخدم الدكتور، في جملة واحدة، ثلاثة أفعال مترادفة تفيد المبالغة.. "انتشر، شاع، عم." ليصف حال الأمراض، والفساد، والجرائم في بلادنا! فهذه الأوصاف التي أطلقها دليل على أن لرسالته غرض آخر غير محض النصح. فالرئيس المنتخب السيد محمد ولد الشيخ الغزواني أعلم منه بحال البلاد إذ كان شريكا فعالا في تسيير شؤونها، بينما انشغل ابن مزيد بصراعات الإخوان ومكايداتهم. ورسم هذه اللوحة القاتمة ليس سوى تصفية للحساب مع عشرية الأمن والنماء التي حمت الوطن من شغب رعاع الإخوان في الشوارع، ومكائد سياسييهم في الكواليس، وفتاوى شيوخهم في الفضائيات...
يرد على ابن مزيد تقوله شيخ آخر من الإخوان أكثر منه إنصافا، وإن شاكله في التحامل.. "... فإني أقدم الخير في نظري الذي قدمه الرئيس المنصرف... وعلى رأس هذا الخير في نظري أنه أنقذ موريتانيا من الانهيار المحقق... ولا شك أنه بدأ فكريا ينفخ الروح في الدولة حتى تخرج إلى الوجود بعد ما وصلت إليه من الانهيار..." (محمدو بن البار: للإصلاح كلمة: تحدد تركة عزيز لموريتانيا). فابن البار، وإن كان إخواني العقيدة، تواصلي المذهب، لا يجد مندوحة عن الاعتراف أن الدولة كانت على وشك الانهيار حتى أنقذها فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز، خلافا لدعوى ابن مزيد. ويضيف ابن البار إلى مآثر الرئيس المؤسس على قواعد وطنية.. "إحياء المؤسسة العسكرية حياة طيبة في نفسها ولرعاية الأمن الخارجي. الارتفاع إلى الحد الممكن بسمعة موريتانيا خارجيا وأقول عالميا." ثم يسهب ابن البار فيما يعده "التركة السيئة..." وكأن ما عدد من المآثر ليس جزءا من التركة قمينا بأن يخفف حكمه القاسي عليها!
أما ابن مزيد فإنه لا يذكر سوى "واقع الجهل والفقر والمرض والتخلف والفساد وغياب الأخلاق." ومن كانت هذه حاله وجبت الريبة في "نصحه"، خاصة حين يدعو إلى الثورة. فالناصح بالتعريف داعية إصلاح، أما الثوار فمشعلو حرائق يسعرونها بالتشنيع، والمبالغة والكذب. فما زال ابن مزيد يحن إلى الثورة التي فشلت في "الربيع" فتمناها مع بوادر الخريف، مستحضرا نفس الترسانة من الآي والحديث التي وظفها منشدو "قم غادر!"، خاصة الحديث الذي بتره القرضاوي في إحدى خطبه المحرضة على الفتنة، وتابعه ابن مزيد على ذلك.. "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم." رواه مسلم. يضع ابن مزيد نقطة بعد "يلعنونكم" للدلالة على نهاية الحديث، متابعا بذلك غش القرضاوي، فكيف يجتمع النصح والغش!
بالرجوع إلى كتب الحديث يتضح أن القرضاوي بتر الحديث لأن آخره يحذر من الخروج على الحكام "الذين تبغضونهم ويبغضونكم"، وتبعه ابن مزيد. وتمام الحديث هو.. " قال: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة." لم يوافق هذا النهي الصريح هوى الثائرين القرضاوي وابن مزيد فأسقطاه من الحديث غشا للعامة وتصرفا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يوافق هواهما السياسي!!
في "الرسالة الغزوانية" يتجلى وجه الإخوان الذي طالما حذر منه الناصحون المشفقون؛ شيخ دكتور طعن في السن يستشهد بالآي والحديث مدعيا النصح للإمام، وحقيقة أمره تصفية حسابات تنظيمه الدولي مع نظام وطني أفشل ثورتهم، وثبت سدا منيعا في وجه محاولتهم بيع الوطن لتنظيم دولي دمر سوريا واليمن، وفكك ليبيا، وأجهض التنمية في تونس، وقسم السودان دولتين، وكاد يجهز على مصر...
في التاريخ الفكري للحضارة العربية الإسلامية "رسائل" شهيرة قصد منها كتابها مقاصد نبيلة فتلقاها الناس بالقبول، مثل رسالة الشافعي التي أسست أصول الفقه، والرسالة القشيرية في التصوف، ورسائل عبد الحميد الكاتب وابن المقفع، ورسائل إخوان الصفا... ولعل أشهر الرسائل، في حيزنا الثقافي الوطني، رسالة ابن أبي زيد القيرواني، والرسالة القلاوية للشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيد المختار الكنتي... وما إخال "الرسالة الغزوانية" تجد لها مكانا بين "الرسائل التاريخية"، فهي إلى "رسالة من تحت الماء" أقرب، فقد أرسلها أمير تنظيم يغرق... سئل ابن المقفع عن البلاغة فقال: "التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها."