ليس مثل قطاع غزة غيتو مغلقاً في العالم، وزنزانةً ضيقةً يحشر فيها المواطنون، ويمنعون فيه من الانتقال والسفر، والعمل والسكن، ولا تلك البانتوستانات والمعازل الضيقة التي كان يحشر فيها سكان جنوب أفريقيا، إبان المحنة العنصرية البغيضة، وإن كانوا يعيشون في بيوتٍ من الصفيح أو القش، إلا أن جل العالم كان معهم ويؤيدهم، ويرفض السياسية العنصرية المستخدمة ضدهم، قبل أن تعود إليهم البلاد، وتؤول إليهم الحكومة، وتصبح لهم دولة ديمقراطية يعيش فيها السود والبيض معاً.
أو تلك الغيتوات التي عاش فيها اليهود في أوروبا برغبتهم أو بعد فسادهم في الأرض، وسوء علاقاتهم مع سكان البلاد الأصليين، وانقلابهم على النعيم والرخاء الذي كانوا فيه، والامتيازات التي كانوا يتمتعون بها كمواطنين أوروبيين، فانطووا على أنفسهم، وخططوا لمستقبلهم الذي كانوا يتطلعون إليه، وساعدهم على مشروعهم العنصري الغرب متداولاً الرعاية والتمكين، وضامناً لهم التأييد والمساندة.
فقد أصبحت مساحة قطاع غزة الصغيرة التي لا تزيد عن 364 كيلو متراً مربعاً منطقةً مغلقةً تماماً أو تكاد، بعد المشروع الإسرائيلي الجديد ببناء سورٍ خرسانيٍ مزدوج، فوق الأرض وتحت الأرض، بطول يزيد عن 60 كيلومتراً، وبعمقٍ مسلحٍ وسميكٍ تحت الأرض، وبارتفاعٍ لعشرات الأمتار من الإسمنت المصمت السميك المسلح، الذي يجعل من قطاع غزة كله زنزانةً محكمة الإغلاق، سميكة الجدران، عالية الأسوار، معزولةً عن العالم كله، مغلقة ببواباتٍ إليكترونية، ومجساتٍ حرارية، وخلايا كهروضوئية، ومزودةٌ بأخرى صوتية، فضلاً عن تجهيزاتٍ أمنيةٍ حديثةٍ لم يكشف الغطاء عنها، وبقيت سرية لتعطي النتائج المرجوة منها، ولئلا يتم إبطال فعاليتها بتقنياتٍ مضادة تعرف المقاومة كيف تكتشفها.
وقد استعدت دولٌ عدة بالمساهمة في هذا المشروع مالياً وتقنياً، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية التي ستشارك في بناء هذا السور الخفي عميقاً تحت الأرض، والمرتفع عالياً في السماء، وبدأت المؤسسات الصهيونية تروج له وتجمع له المساعدات والمساهمات، لإيمانها أنه مشروعٌ يخدم "شعب إسرائيل".
أما الواقع الحالي لقطاع غزة البئيس قبل المباشرة في هذا المشروع اللعين، فهو محاصرٌ من قبل العدو الصهيوني غرباً من البحر، الذي لا يستطيع الفلسطينيون التعمق فيه لأكثر من ثلاثة أميالٍ بحريةٍ، وأحياناً يتم الاتفاق على زيادتها إلى ستةٍ، في الوقت الذي تجوب فيه الزوارق الحربية الإسرائيلية والعديد من القطع البحرية ساحل القطاع، فتطلق النار على القوارب والصيادين، فتقتل بعضهم وتعتقل آخرين، وتمنع أي قوارب أو سفنٍ أجنبيةٍ من الاقتراب من الساحل، خطئاً أو بقصد خرق الحصار وتقديم المساعدة إلى سكان قطاع غزة.
أما شمال القطاع فيحكمه حاجز إيريز المذل المهين، الذي يعمل كصمامٍ محكم الإغلاق، لإدخال أقل عددٍ ممكنٍ من الفلسطينيين، ولكن بعد فحصهم والتدقيق في هوياتهم، والتحقيق مع بعضهم واعتقال المطلوبين منهم، في الوقت الذي يغلق فيه جيش العدوان كامل الحدود الشمالية للقطاع وصولاً إلى البحر، ويمتد السور الأمني والأسلاك الشائكة بعرض يصل إلى خمسمائة متر على كامل الحدود الشرقية لقطاع غزة، إلا من بواباتٍ ومعابر تجارية تفتح أحياناً وتغلق كثيراً، في ظل إجراءاتٍ أمنيةٍ مشددة.
بينما جنوب القطاع مغلقٌ كلياً وبصورةٍ قاسيةٍ ومؤلمةٍ بالقرار السياسي والأمني المصري، وقد حولت الحكومة المصرية الشريط الحدودي المصري المحاذي للقطاع إلى مناطق غير مأهولة، فهدمت البيوت، وخلعت الأشجار، وسوت الأرض وجرفتها، فلا مرتفعاتٍ ولا تلال، ولا سواتر أو موانع، ثم هدمت مئات الأنفاق، وفتحت في بعضها قبل تفجيرها وهدمها الغاز الخانق، وتسببت إجراءاتها في مقتل العشرات من أبناء الشعب الفلسطيني، ثم حفرت خندقاً عميقاً يمتد من البحر إلى أربعة عشر كيلو متراً جنوب القطاع، الذي أغرقته بالمياه المالحة والعادمة، فأفسدت الأرض، وأتلفت المياه الجوفية، وخنقت السكان ومنعت حركتهم.
قطاع غزة هذا الشريط الطولي الضيق بطولٍ لا يكاد يصل إلى 47 كيلومتراً من الشمال إلى الجنوب، وبعرضٍ يتراوح بين 7-13 كيلومتراً، والمحصور بين البحر والعدو غرباً وشرقاً، وبين مصر والعدو جنوباً وشمالاً، سيكون عما قريب بعد تنفيذ الشركات الإسرائيلية للمشروع الأمني الإسرائيلي الذي سيبدأ العمل فيه في أكتوبر من هذا العام، علبة كبريتٍ مغلقة، أو زنزانة ضيقةً محشورة بسكانها، وقد أعلن عن المباشرة في هذا المشروع العنصري وزير حرب العدو أفيغودور ليبرمان، الذي بشر مستوطنيه بالأمن والطمأنينة الكاملة في السنوات القليلة القادمة، وأكد لهم أنهم لن يسمعوا أصواتاً كدبيب النمل تحت بيوتهم، ولن يفاجئوا بمقاتلي كتائب القسام يقتحمون عليهم بلداتهم وبيوتهم، ولن تكون أي قيمة تذكر لأنفاق كتائب القسام التي تخطط لها لأن تصل إلى البلدات الإسرائيلية.
صحيح أن هذا المشروع الأخير إسرائيلي الفكرة والمنشأ، وقد تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد ساعدت الكيان في دراسته ومعرفة مدى الجدوى الأمنية المبتغاة منه، ولعبت الشركات الأمنية الأمريكية والأوروبية الخاصة دوراً في تحسين شروطه الأمنية ورفع مستوى الضمانة فيه، لكن العدو الإسرائيلي ليس هو المتعهد الوحيد له، كما أنه ليس الراعي والممول له، أو المتابع والمشرف عليه، وإن شاركته دول، أو ساهمت فيه شخصياتٌ وشركاتٌ.
إن هذا المشروع مخططٌ كبيرٌ، ويتطلب قراراً خطيراً، لا للجهة المالية أو الكلف المادية، بل لأنه مشروع سياسي وأخلاقي وإنساني قبل أن يكون أمنياً فقط، وما كان للعدو أن يقدم عليه وأن يشرع في بنائه لولا أنه حصل على موافقاتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ صريحةٍ، فقد وافقت الإدارة الأمريكية ومعها دولٌ أوروبية غربية على المباشرة في هذا المشروع، وأبدت استعدادها لتمويله الذي قد يصل بمعداته وتجهيزاته إلى ملياري دولار.
لكن الإرادة الإسرائيلية والموافقة الدولية والدعم الأمريكي وغيره لا يكفي لأن يطلق العدو الإسرائيلي العنان لجموح جنونه، وشطحات وزير حربه، ومغامرات ضباطه وقادة أركانه، فيسجنوا قطاع غزة ويحكموا عليه الخناق براً وبحراً وجواً، لولا أن العدو ضمن الحكومات العربية، التي تكره العزة، وترضي بالذل والتبعية وتصفها بالواقعية، وتركن إلى المهانة والاستكانة وتظنها طمـأنينةً وسلاماً، فأمن السلامة، واطمأن إلى ردات الفعل، وربما نال من بعضهم الرضا وحصل على الاستحسان والتمويل، والشكر والتقدير والإشادة، إذ أن بعض العرب قد ضجر من المقاومة، ومل من الصمود، وسأم من تعقيدات القضية، ويأس من أطرافها، وما عاد يرغب في دعمها وتأييدها، أو مساندة أهلها وتثبيتهم، والاعتداد بصمودهم ومقاومتهم.
بيروت في 22/8/2016