كانت "وخيرت" إلى عهد قريب عنوانًا للمدح وإحسان الثناء على المرء لِمَا يقدّمه أو يتّصف به من "خير". وكانت تستخدم ضمن معادلة منطقية قائمة على إعطاء المدح في محلّه المناسب، وفي مقابل أن يفعل المرء شيئاً حسناً، أو يمتلك صفات حسنة تجعله من "الأخيار" و يستحق بها "وخيرت"، وهي درجة سامية و لقب فخري لا يناله إلا من سعى له سعيه بالتميز والبراعة والإجادة والمكانة والسخاء. وكان الناس يتسابقون ويتنافسون في الفضائل والمعالي للفوز بكلمة "وخيرت".
اليوم، أصبحت الصورة مقلوبة تماما. فقدت المعادلة توازنها، وفقدت "وخيرت" طرافتها وقيمتها ومعناها بسبب الابتذال وكثرة الاستعمال. وأحيلتْ إلى أغراض ماديّة زائفة وسلعة رخيصة يتمّ تداولها على اللاشيء. قد تكون ظاهرة توزيع "وخيرت" مجاملة أو قجما ليست بجديدة؛ هذا صحيح، لكنها إذ تغدو بهذا الاتساع والانتشار الكبيرين اليوم فإن الأمر يجب أن يُؤخذ بوصفه طمسا للفوارق بين "العظمة" و "التفاهة"، ومعلماً جديدا من معالم انحطاط القيم والأخلاق. إنه من المحزن والمثير للقلق أن نرى "وخيرت" تمجها الألسن والأسماع بهذه الدرجة من الخِفة والابتذال.
أخشى ما أخشاه أن يؤثر هذا السلوك الزائف على الأطفال سلبا، ويخلق نوعا من البلبلة والغموض في أذهانهم وقلوبهم البريئة. فالأطفال يتعلمون المواقف والقيم والتفضيلات والعادات الشخصية عن طريق الملاحظة والسماع والتقليد. ما هي الرسالة التي نوجهها إليهم من خلال تعظيم وتمجيد أناس يدركون عبثهم بفطرتهم السليمة؟ وكيف سيكون سلوكهم عندما يكبرون في محيط لا يفرق بين الجميل والقبيح، والجدير والحقير، ويتلقى الكل بالترحيب والتقدير، وكأن الخط الفارق بين "السمو" و"السفالة" قد زال من الوجود، وهو أمر مستحيل. إن ثنائية "وخيرت" و "ورخست" باقية ما بقي الليل والنهار، والمجتمعات البشرية تحتاج القوة الرادعة الكامنة في "ورخست" لنبذ الرذائل بقدر ما تحتاج "وخيرت" لتحصيل الفضائل.
يقول الشيخ سيد المختار البكاي في هذا المعنى:
ورخست أوَخيَرت اثّنتين * ما هم سياني ف الوذنين
قيس العين أعل ذاك إلين * تفهم الامور المختلطَ
وافصل بين ألِّ زين أشين * و الغبطه و الماهُ غبطه
و اگرَ الاحكام أحكام الدين * واكبَر فالظّبطَ بالمعطه
لا تعطِي معطَى ماهُ زين * زين المعطَى ما يوخطَّ
لمْ الخاسر .. يسوَ فمنين * لا تنشر .. للخاسر خبطه
أطباع الناس أعل شكلين * ماهِ ف الظّبطه مرتبطه
شمن الناس امّونك واحنين * يعرف گد ألِّ فالظَّبطه
أشي ثاني وساه المتين * ورطه ماه كيف الورطه
وهاذ بينُو گد .. ألِّ بين * الصَّرطَ واعگيد الصَّرطَ
* والِّ منكم ما يعرف معنى اعگيد الصّرطه إسوَل عنُّ ههه
وانَ بعد نشهد عن وخيرت يسحقها الشاب الذي أرسل لي هذه الطلعه، وهو يعرف نفسه.
---------
من صفحة الأستاذ والوزير السابق محمد فال ولد بلال على الفيس بوك