الذي حدث ويحدث الآن بين الرئيسين المحمدين الحالي ولد الغزواني، والسابق ولد عبد العزيز، لم يكن وليد هذه الفترة، ولم يبدأ صدفة، وثمة ما يدفعنا إلى الاعتقاد أن كل ما يشاع عن محاولة انقلاب حاول الرئيس السابق تدبيرها على صديقه عشية الذكرى ال 59 للاستقلال، وما يقال عن غضب الرئيس الحالي من اكتشاف سحوبات مالية كبيرة قام بها صديقه " السابق" قبل أن يسلمه السلطة ، وأن ذلك هو ما أدى للمواجهة بينهما، كل ذلك هو مجرد واجهة متعمدة الإخراج، لتصفية حسابات بدأت تحديدا منذ العام 2014 تخرج على شكل أزمة علنية بين الرجلين.
يسعى هذا التحليل إلى اعتماد تلك " الفرضية" المدعومة بأدلة عديدة، محاولا الوصول إلى تحليل ما جرى ويجري حاليا من صراع على السلطة في موريتانيا، وطرح الأسئلة التي تنقذنا جميعا كمجتمع وسلطة من الاستمرار في محاولة إدراك وهمية تشبه تماما الاستحمام في بحر من الرمال.
- الصديق اللدود
................
أكتوبر 2012 وما تلاه بعد إصابة الرئيس السابق ولد عبد العزيز بما بات يعرف برصاصة اطويله، كان التجلي الأبرز للعلاقة الخاصة التي ربطت بين الرجلين، حينذاك استطاع الرئيس غزواني الذي كان قائد أركان الجيش وقتها أن يحتوي الموضوع، ويرتب كل الإجراءات التي كفلت الحفاظ لصديقه ورئيسه على رئاسته، في بلد معروف بكثرة الانقلابات وسهولة القيام بها على رئيس صحيح ومعافى وفي قصره، أحرى أن يكون مريضا، جريحا، وبعيدا في قلب باريس.
ورغم الزخم الأخلاقي السياسي الذي استفاد منه الرئيس غزواني بخطوته رفض إعلان تفاصيل إصابات صديقه آنذاك، والإبقاء على مقاليد الأمور محفوظة له حتى عودته، في ظل أطماع كانت لدى بعض العسكريين والمدنيين آنذاك في الانقلاب على الرئيس عزيز وإزاحته بدعوى عجزه المرضي، برغم ذلك إلا أن بعض المتابعين المقربين من المشهد آنذاك يرون أن الأمر لم يكن بتلك " النظافة" الأخلاقية.
يعتبر بعض المحللين أن الجنرال غزواني لم يكن متعففا عن مجاراة التطلعات الانقلابية الآنفة الذكر،لكنه برغم قيادته للأركان، كان عاجزا عن التحكم ومنذ أول يوم من إصابة الرئيس عزيز في قوات الحرس الرئاسي التي نجح الأخير بطريقة ما في جعلها مستقلة القيادة والتحكم، وتضيف نفس التحليلات أن المرحوم نجل الرئيس أحمدو المتواجد معه في المستشفى الباريسي، كان يدير تلك القوات من مكانه هناك رغم أنه مدني ولا يمتلك أية صفة سلطوية.
ويرى أولئك أن غزواني أدرك ذلك حين حاول في الأيام الأولى احتواء تلك القوات ودمجها تحت قيادته، لكنه لقي ممانعة من قياداتها، وعندئذ قد يكون أدرك أن أي محاولة للانقلاب قد تؤدي إلى تصادم معين مع تلك القوات الرئاسية، فآثر أن يظهر بمظهر الصديق الوفي والقائد النبيل الذي يرفض طعن صديقه في ظهره على طريقة بروتوس.
بعد عودة الرئيس عزيز من باريس، واستعادته لمقاليد الأمور، كان من المفترض أن يكافئ صديقه الوفي، لكنه لسبب ما وبدلا عن ذلك وخلال سنتين لاحقتين، بدأ يُظهر علنا الجفاء له ويتعمد مضايقة وعزل كل من يحسبون عليه.
و كان أول مشهد ظهر إلى العلن من ذلك الجفاء بين الرجلين، هو مشهد تعمد من خلاله الرئيس عزيز كما يبدو إهانة صديقه برفض مصافحته على الملأ وتجاهل يده الممدودة بل وتخطيه، كان ذلك في حفل رفع العلم احتفالا بالذكرى ال 54 لعيد الاستقلال.
أظهرت اللقطة المصورة أن الجنرال غزواني ارتبك للحظات، ثم استعاد هدوءه الذي يشتهر به بسرعة وتبع الرئيس ووزيره الأول وإلى داخل القصر، وكان من الواضح أنه ابتلع الإهانة على الأقل ظاهريا.
ثم تلا ذلك مضايقة المقربين منه اجتماعيا، ومن بينهم السفير السابق في الإمارات وعديل غزواني، الذي وجهت له سلطات عزيز تهمة مالية تتعلق بمبلغ 60 مليون أوقية، ومحمد محمود ولد بناهي، وأبناء لحويرثي..
السؤال الذي طرح نفسه آنذاك، هو ما يتكرر الآن في هذه الظرفية التي يتحكم فيها الرئيس غزواني في السلطة: ما الذي يجعل الصديق ينقلب على صديقه " الوفي" ويبدأ في محاصرته ومضايقته وإهانته ومضايقة أقرب المقربين إليه؟، ما الذي اكتشفه الرئيس عزيز آنذاك وجعله يتنكر لما فعله له غزواني من " معروف" سياسي أثناء إصابته، وما الذي يجعل الرئيس غزواني يكرر نفس الشيء الآن وإن بطريقة مختلفة مع عزيز برغم أنه تنازل له " ظاهريا على الأقل- عن الحكم طواعية وفي مشهد لقي ثناء في العديد من دول العالم؟
غموض العلاقة وادعاءات واهية:
.........................
لا توجد حتى الآن معلومات مؤكدة وواضحة عن سبب الصراع بين الرجلين وفي فترة تمكُن كل منهما، لكن ثمة ما يدعو للاعتقاد أنه حين نعرف سبب الصراع الذي ظهر منذ 2014 وما بعدها سيمكننا أن نفهم بالضبط ما يحدث الآن وبشكل لا لبس فيه.
كل ما هو معروف حتى الآن أنه بعد 2014 بفترة زمنية لا أملك لها تحديدا دقيقا، قامت أطراف في سفارة موريتانيا في المملكة المغربية بإنجاز تحقيق في ثروات الرئيس عزيز وممتلكاته العقارية هو وأسرته هناك، وبطريقة ما ورغم سرية التحقيق وصل الخبر إلى الرئيس عزيز الذي استشاط غضبا، لأنه علم أن الأمر تم بأوامر من قائد الأركان غزواني، وتمت آنذاك لملمة الأمر بسرعة، لكن يبدو أن غزواني استطاع بمخابراته العسكرية أن يحصل على كل ما يتعلق بثروة الرئيس وممتلكاته وربما في بلدان أخرى إضافة إلى المغرب.
ولعل هذا ينفي الزعم القائل هذه الأيام أن سبب غضب الرئيس غزواني من صديقه هو أنه اكتشف "فجأة" أن لديه أموالا كثيرة مختلسة وثروات كبيرة راكمها بدون علمه.
ثمة أمر آخر يضاف إلى ذلك النفي ليجعل سبب العلاقة المتوترة بين الصديقين غامضا أكثر، ألا وهو تصريحات وزير المالية الحالي في حكومة الرئيس غزواني في خرجته الأولى مع محافظ البنك المركزي حيث تم التأكيد على أن " الشائعات التي تتحدث عن مشاكل مالية تواجهها موريتانيا لا أساس لها من الصحة"، وهو ما يدحض الشائعات التي ثارت آنذاك وفي بداية تنصيب الحكومة بأن الرئيس عزيز تسبب في عجز للخزينة العمومية لأنه سحب منها مبالغ ضخمة، وهو نفس ما يعاد هذه الأيام، ويسوق كمبرر للخلاف بين الرئيسين.
ثمة ادعاء آخر يتعلق بتهمة المحاولة الانقلابية والتي نفاها رسميا بالأمس وزير الدفاع.
حسنا، إذا كان كل ذلك واهيا ولا يفسر سبب الجفاء القديم الجديد بين الصديقين، فما الذي حدث ويحدث؟
أعتقد أن ذلك السؤال الجوهري مرتبط بجواب سؤال آخر هام وهو لماذا قرر الرئيس غزواني أن يترشح للانتخابات الرئاسية، بعد تصريحه الشهير سنة 2012 بأنه لا يرغب في الرئاسة ولن يترشح لها؟
من الواضح أن الرئيس غزواني في الفترة ما بين عودة صديقه من أزمة الرصاصة الصديقة وحتى السنة الحالية 2019 التي شهدت ترشحه وفوزه بالرئاسة، قرر أنه لا بد أن يكون صاحب اليد الطولى في العلاقة مع صديقه، ولكي يرد له بعض ما فعله معه من استهداف، كان لا بد أن يصبح رئيسا وقد كان.
الآن تتسارع الأحداث لتكشف عن لعبة صراع سافرة بين الرجلين، ومن الواضح أنها مازالت " باردة" ولم تصل لمرحلة الاجتثاث الكلي، ومن الواضح تبعا لإمكانيات كل منهما وأوراق ضغطه أن اللعبة لن تُحسم بسرعة.
وربما لو عرف سبب كل هذا الصراع لاستطاع طرف مقرب من كليهما أن يتوصل لتسوية ما، فمن الواضح أن الرجلين ما زالا يحافظان بوعي أو بدون وعي على إمكانيات معتبرة للتسوية بينهما، وفي انتظار أن يحدث ذلك لا بأس أن يجعل كل منهما صاحبه " يقلق" من جراء ما يمكن أن يفعله الآخر أو ينشره عنه، إنها إذا لعبة يعرف كل منهما بدايتها ونهايتها وأين يمكن أن تتوقف وكيف ستتوقف
(*) / كاتب صحفي