تضاربت الأنباء حول صحّة التقارير التي تحدّثت بشكلٍ مُكثّفٍ في الأيّام القليلة الماضية حول سحب الإمارات المُتدرج لقوّاتها من اليمن، وصعّد هذا التّضارب حالة الصّمت الإماراتي المُبالغ فيها، وتجنّب مُعظم المسؤولين التّعليق عليها، لكن الأمر المُؤكّد أنّ أبوظبي لم تعُد قادرةً على المُضي قدمًا في هذه الحرب بعد أربع سنوات من الخسائر الضّخمة، ماديًّا، وبشريًّا، وسياسيًّا، ومعنويًّا، وبات الاستمرار في هذا المأزق يُعطي نتائج عكسيّة، أبرزها نقل الخصم للمعركة إلى العُمقين السعوديّ والإماراتيّ، وتفاقم المُعارضة الداخليّة والمُجتمع الدولي لها في آنٍ.
دولة الإمارات، وإمارة أبوظبي، على وجه الخُصوص، دخلت هذه الحرب تضامنًا مع الحليف السعودي، واعتقادًا بأنّ النصر سيأتي سريعًا، وبأقل التّكلفة لانعدام التّكافؤ في موازين القِوى، وضعف الطّرف المُقابل، والتفوّق الجويّ الإماراتيّ السعوديّ القطريّ الهائل (قطر كانت شريكًا فعّالًا في التّحالف قبل انسحابها)، ولكن غياب الحسم والحزم السّريع، واشتِداد المُقاومة اليمنيّة الشّرسة، ووصول الدعم الخارجي، وضعف الحُكومة “الشرعيّة” وانعِدام الكاريزما في صُفوف قيادتها، كلها عوامل أدّت إلى تراكُم الوضع الراهن، وكشَفت عن سُوء التقدير، والاستِخفاف بالطّرف الآخر، هو استِخفاف لم يكُن في محلّه مُطلَقًا.
التقارير الغربيّة أكّدت أنّ دولة الإمارات سحبت جُزءًا كبيرًا من قوّاتها المُقاتلة، والدبّابات، والطائرات العموديّة القتاليّة، بشكلٍ تدريجيٍّ ودون أيّ ضجيج، وسط حِرصٍ واضحٍ على تجنُب ضجّة إعلاميّة تُظهر حركة “أنصار الله” وحُلفائها بالطّرف المُنتصر، وتُسبّب إحراجًا في الوقت نفسه للشريك السعودي الذي بدا المُتضرّر الأكبر من هذه الخطوة الإماراتيّة التي جاءت في وقتٍ يتعرّض فيه العُمق السعوديّ لانتكاسات عسكريّة، أبرزها القصف الصاروخيّ المُتواصل لمطارات (أبها ونجران وجيزان) من قبل الحوثيين وطائراتهم المُسيّرة، واستيلاء مُقاتليهم على أراضي سعوديّة في الحد الجنوبي، اختلفت الآراء حول عُمقها وحجمها، لكنّها اتّفقت على صُدقيّتها.
***
أسبابٌ عديدةٌ دفعت دولة الإمارات إلى الإقدام على خطوات الانسحاب التدريجيّ هذه، وتسريعها في الفترة الأخيرة نُوجزها في النّقاط التالية:
أوّلًا: نقل حركة “أنصار الله” الحوثيّة وحُلفائها في الداخل والخارج الحرب من الأرض اليمنيّة إلى عُمق دول التحالف، سواء بشكلٍ مُباشرٍ أو غير مُباشر، لزيادة التذمّر الشعبي فيها، وزيادة القلق، وبالتّالي دفع الشعب إلى التّساؤل عن شرعيّة هذه الحرب، والخوف من تطوّراتها، والفائدة منها من الأساس، وكانت عمليّة الهُجوم على ست ناقلات نفطيّة في المِياه الإقليميّة لدولة الإمارات الشّق الأوّل من الرسالة، وقصف مطار أبها، أحد أكبر المطارات السعوديّة وتعطيل المِلاحة الجويّة فيه، وفي ذروة موسم السياحة الداخليّة، الشّق الثاني منها.
ثانيًا: تعاظُم قوّة “أنصار الله” الحوثيّة وحُلفائها وامتلاكها أسلحةً مُتقدّمةً خاصّةً في مجال الصواريخ والطائرات المُسيّرة المُلغّمة، ونجاحها في تحقيق قوّة ردع فاعلة، حيّدت سلاح طيران التحالف كُلِّيًّا، وأبطلت مفعوله.
ثالثًا: تآكل ونفاذ موجودات بنك الأهداف المدنيّة والعسكريّة بالنّسبة إلى التحالف السعودي الإماراتي، ووجود أكثر من 400 هدف لدى التحالف الحوثي في المُقابل بات في مُتناول صواريخه الباليستيّة المُجنّحة الدقيقة أو الطائرات المُسيّرة المُلغّمة.
رابعًا: انهيارٌ ملموسٌ للقُدرات الدفاعيّة الأرضيّة والجويّة لدول التحالف التي جرى إنفاق عشرات المِليارات لبنائها، فصاروخ “الباتريوت” الذي تبلُغ قيمته 6 ملايين دولار بات عاجزًا أمام صاروخ حوثي لا تزيد قيمته عن 1500 دولار، وبات يُهدّد مُعظم، إنّ لم يكُن كُل المطارات السعوديّة.
خامسًا: وجود قنوات اتّصال سريّة نشِطَة بين الإمارات وحركة “أنصار الله” الحوثيّة، نجحت في التوصّل إلى تفاهماتٍ غير مُعلنةٍ أبرزها انسحاب القوّات الإماراتيّة وعتادها الثّقيل من الشمال اليمني، وبقائها في الجنوب مُقابل عدم مُهاجمة الصواريخ الحوثيّة لمطارات أبوظبي ودبي، للانعكاسات السلبيّة لأيّ هُجوم على اقتصاد الإمارات، والصّواريخ التي تصِل إلى مطار أبها والرياض وجدّة يُمكن أن تصِل إلى دبي وأبوظبي، ومن يستطيع تلغيم ناقلات نفط واختراق الأجهزة الأمنيّة في ميناء الفجيرة، يستطيع الوصول إلى أهدافٍ حيويّةٍ استراتيجيّةٍ في أيّ مكانٍ آخَر في الإمارات.
سادسًا: وجود حالة تململ ضخمة ومُتزايدة في الإمارات الأخرى التي لم تكُن مُتحمّسة لخوض حرب اليمن، مِثل الشارقة ودبي ورأس الخيمة، رغم عدم ظُهور حالة التذمّر هذه إلى العلن، ولكنّ دُخول الحرب العام الخامس دون حسم، أو التوصّل إلى حُلولٍ سياسيّةٍ دفعها إلى الظّهور على السّطح.
سابعًا: تزايُد أعداد الخسائر في صُفوف مُقاتلي الإمارات، ومقتل وإصابة أفراد من الأسرة الحاكمة، والعائلات الكبيرة للمرّة الأولى في تاريخ البلاد.
ثامنًا: تراجُع مُستوى التّنسيق العسكريّ بين الحليفين الإماراتي والسعودي في ميادين القِتال، ولوحِظ أنّ تواجد السعوديّة في مِنطقة مثل المهرة، يتلوه انسحابٌ إماراتيٌّ منها، مُضافًا إلى ذلك انشِغال السعوديّة بالقِتال في الحد الجنوبي ومُحاولة منع تقدّم الجيش اليمني والقوّات المُقاومة الحوثيّة من جيزان ونجران وعسير.
تاسعًا: شكوى العديد من المَسؤولين العسكريين الإماراتيين من تواضُع كفاءات الجيش السعودي في ميادين القتال، رغم المعدّات العسكريّة المُتقدّمة، وقال مسؤولٌ خليجيٌّ كبيرٌ في جلسةٍ خاصّةٍ مع نُظرائه العرب “اكتشفنا أنّه لا يوجد جيش سعودي بما تعنيه هذه الكلمة من معنى”.
عاشرًا: توسيع دولة الإمارات لدائرة تدخّلاتها السياسيُة والعسكريّة وفوق قُدراتها، خاصّةً في ليبيا والقرن الأفريقي، وحتى في أفغانستان وكوسوفو، الأمر الذي فاقم من أعبائها وضاعف التزاماتها الماليّة والعسكريّة والسياسيّة في الوقتِ نفسه.
***
لا نستبعد أن تكون أنباء هذا الانسحاب الإماراتي التدريجي في اليمن هو ثمرة “مُراجعات” سياسيّة على أعلى المُستويات، وفي الملف اليمني على وجه الخُصوص، وربّما نرى نتائجها تنعكس أيضًا في ميادين أخرى أبرزها “بُرود” العلاقات المُتميّزة والتحالفيّة مع المملكة العربيّة السعوديّة بطريقةٍ أو بأخرى.
السعوديّة مُطالبة أيضًا بإجراء “مُراجعات” مثيلة وربّما أكثر تعمّقًا ووضوحًا، لأنّ الاستمرار في بعض السياسات وخوض الحُروب في السنوات الخمس الماضية باتت تكلفها الكثير ماليًّا ومعنويًّا، وتُؤثّر على صُورتها في العالمين العربيّ والإسلاميّ.
سياسة الحرب بالوكالة في اليمن فشِلت، وسياسة التّفاوض بالوكالة لم تنجح مُطلقًا، ولا بُد من الاعتراف بالطّرف الآخر والتّفاوض معه بشكلٍ مُباشرٍ، فأمريكا الدولة العُظمى اضطرّت للتّفاوض مع حركة طالبان ومن موقع النّد، مثلما اضطرّ رئيسها دونالد ترامب إلى شد الرّحال إلى سنغافورة وهانوي للقاء كيم جونغ أون، زعيم كوريا الشماليّة.
لا يُعيب السعوديّة والإمارات إجراء مِثل هذه المُراجعات لأنّ الاستمرار في سياسات لم تُحقّق الهدف المَأمول بات يُعطي نتائج عكسيّة تمامًا، خاصّةً في المِلف اليمني، الذي بات جُرحًا كبيرًا نازِفًا يستعصي على العِلاج يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام.. واللهُ أعلم.
راي اليوم