في الوقتِ الذي يتعرّض فيه اللّاجئون السوريّون إلى حملات “عُنصريّة” شَرِسة في العَديد من الدول العربيّة والإسلاميّة مِثل مِصر ولبنان وتركيا ودول خليجيّة تُطالب بإعادتهم إلى بلادهم بالقُوّة، والتذرّع ببعض الاتّهامات الواهِية مِثل مُنافسة العمالة المحليّة، والتسبّب في ارتفاع مُعدّلات الجريمة بأشكالها كافّة، يخرُج علينا الدكتور مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا، بتعهّد بمُساعدة المُسلمين الروهينغا الذين يسعون للّجوء إلى بلاده هربًا من الاضّطهاد الذي يتعرّضون له في بلادهم بورما.
الدكتور مهاتير لم يُغلق أبواب بلاده في وجه أيّ إنسان مُسلم ضاقَت في وجهه سُبل العيش والأمان والاستِقرار واستقبل الآلاف من النّازحين الفِلسطينيين والسوريين وقبلهم من العِراقيين فرّوا للنّجاة بأرواحهم من حُروب اندلعت في بُلدانهم، أو تلك التي يُقيمون فيها، بعد أن أغلقت دول عربيّة غنيّة أبوابها في وجوههم، ما عَدا بعض القِطط السّمان الفاسِدة طمعًا في أموالها ومِلياراتها التي نَهبوها تحت مِظلّة الفساد التي كانت تحميهم في بُلدانهم.
***
تابعنا الحملات التي يتعرّض لها حواليّ 300 ألف سوري لاجِئ في مِصر نجحوا في تحقيق حالة من الازدهار الاقتصادي، وبناء بُنى تحتيّة وخدماتيّة قويّة مُزدهرة مِثل المطاعم والمقاهي، ومعامل النّسيج والحِياكة، وخلَقوا فُرص عمل لآلاف العمّال والمُوظّفين المِصريين، مِثلما تابعنا الحملات العُنصريّة الشّرسة التي تعرّض، ويتعرّض لها النّازحون السوريّون في لبنان، وتضمّنت إهانات واعتِداءات جسديّة، وصلت إلى حد القتل في بعض الأحيان، والذّريعة هو تهديد التّركيبة السكانيّة والطائفيّة، وزيادة أعباء الدّولة المَأزومة اقتصاديًّا.
والأخطر من ذلك كلّه أن وجود حواليّ 4 ملايين لاجِئ سوري في تركيا بات يُواجه العُنصريّة والمُضايقات وحملات التّرحيل نفسها، بعد أن كانت تركيا مَضرب المثل في كرم الضّيافة، وتقديم كُل التّسهيلات اللّازمة لهؤلاء، ليتبيّن لاحِقًا أنّ المُعاملة على وشك الانتِقال من النّقيض إلى النّقيض، حيثُ يتبارى المُتنافسون في انتخابات مدينة إسطنبول البلديّة التي ستدخُل جولةَ الإعادة بعد غد الأحد في تقديم التعهّدات لترحيلهم، وتحميلهم مسؤوليّة العديد من الأمراض الاجتماعيّة، والأزَمَات الخدميّة، والجرائم الجنائيّة في البِلاد، وبمعنى آخَر انتهى مفعول ورقة الاستغلال السياسيّ لهؤلاء من قبل الحزب الحاكم بعد تعثّر مشروعه في سورية.
المُهاجر السوري هو الأكثر ذكاءً وكفاءةً بين جميع أقرانه، ومشهودٌ له بالمُثابرة والعمل الشّاق، والقُدرة العالية على المُنافسة بطُرقٍ قيّمة مشروعة، ونجحت دول غربيّة مِثل ألمانيا في تأهيلهم واستيعابهم في مُجتمعاتها، والاستفادة من خبراتهم، وحقّقت نتائج مُبهرة في هذا الصّدد، وهي التي تُعاني من نقصٍ في الأيدي العامِلة الماهرة بسبب ارتفِاع نسبة الشّيخوخة في أوساط مُواطنيها.
نحنُ مع عودة المُهاجرين والنّازحين السوريّين إلى بُلدانهم دون تردّد، ليس لأنّهم من أكثر الشّعوب حِرصًا على هذه العودة، وإنّما أيضًا لأنّ سورية تحتاج كفاءاتهم للمُشاركة في ورشة إعادة الإعمار التي من المُتوقّع أن تبدأ قريبًا بعد استعادة ما تبقّى من الأراضي السوريّة خارج سيطرة الدولة وجيشها سواء في مُحافظة إدلب أو شرق الفُرات، الغنيّ بالغاز والنّفط والأراضي الزراعيّة الخصبة، وبعض المناطق الكرديّة في الشّمال.
من غير المنطقي مُمارسة ضُغوط على هؤلاء المُهاجرين وإعادتهم بالقوّة إلى بلدهم ومُدنهم، في وقتٍ جرى تدمير مُعظم هذه المُدن بسبب الحرب، وحال الحِصار الخانِق المفروض على سورية من دُولٍ عربيّةٍ وغربيّةٍ لعِبت دورًا لا يُمكن نُكرانه في ضَخ المِليارات من أجل إشعال فتيل الحرب واستِمرارها لأطولِ فترةٍ مُمكنةٍ من خِلال تمويل المُسلّحين وإمدادهم بالسّلاح الفتّاك وتَوظيفهم في مشاريعها التفتيتيّة.
***
نشعُر بالامتنان لرئيس الوزراء مهاتير محمد، لأنّه يُقدّم مثلًا مُشرّفًا يُحتذى في الوطنيّة والإنسانيّة، ليس باستيعابه اللّاجئين القادِمين إلى بلاده، وهي غير الثريّة والنفطيّة أو الغازيّة (من الغاز) بغض النّظر عن دِينهم أو جنسيّتهم فقط، وإنّما أيضًا لأنّه قطع فترة تقاعده من السّياسة والحُكم بعد أن حوّل ماليزيا إلى نِمر اقتصادي قويّ أثار حسد الغرب وغيرته، وعاد إلى الحُكم وهو في التّسعين من عُمره، لإنقاذ بلاده من الفساد واعتقال الفاسدين وتقديمهم إلى العدالة، وعلى رأسِهم سلفه رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق وزوجته وبعض أبنائه وأصهاره، والأهم من كُل هذا وذاك، النّأي ببلاده عن حرب اليمن، ورفضِه كُل أنواع التّطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وعدم السّماح لفرقها الرياضيّة في المُشاركة في مُسابقاتٍ دوليّةٍ على أرض بلاده حتى لو أدّى ذلك إلى إلغاء هذه المُسابقات غير مأسوفٍ عليها.
الشعب السوري الذي فتح قلبه وبلاده لمَلايين النّازحين العرب، وعامَلتهم دولته المُعاملة نفسها التي تُعامل بها مُواطنيها لا يستحق هذا الجُحود ومن أشقائه العرب، والأغنياء منهم الذين أقفلوا الأبواب في وجهه، لأسبابٍ عُنصريّةٍ أو طائفيّةٍ صِرفة، ونأمل أن لا ينعكِس هذا الجُحود سلبًا على مشاعره وقِيَمه التي جعلت من سورية قِبلة العُروبة والتّعايش والتّسامح واللاطائفيّة.