نجح سيرغي فيرشينين، نائب وزير الخارجيّة الروسي، في تبديد الآمال التي كانت معقودةً على مُؤتمر ثُلاثي حول أمن منطقة الشرق الأوسط من المُقرّر أن يُعقد في القدس المُحتلّة على مُستوى مُستشاري الأمن القومي في أمريكا وروسيا ودولة الاحتلال الإسرائيلي، عندما أكّد اليوم الخميس عدم وجود صفقة بين بلاده وتل أبيب حول سورية لأنّ هذا المنحى يصُب في خانة “المُتاجرة” وروسيا لا تُتاجر في هذه القضايا الاستراتيجيّة وعلى حِساب حُلفائها.
نائب الوزير فيرشينين اضطرّ للإدلاء بهذا النّفي بعد أن بالغ كثيرون، خاصّةً في المُعسكر الأمريكي الإسرائيلي، ومن العرب خاصّةً، على هذا المُؤتمر من حيثُ كونه سيقر “صفقة” بين الدول الثّلاث تتعلّق بإنهاء الوجود الإيراني في سورية مُقابل اعتراف الولايات المتحدة ببقاء الرئيس بشار الأسد في قمّة السّلطة.
إنّ هذه التّسريبات التي نفاها أيضًا جيمس جيفري، المبعوث الأمريكي الخاص لسورية، وأكّد أنّ كُل ما قيل حول مُؤتمر القُدس الثّلاثي غير صحيح، وأنّ الاتّصالات جارية لبحث التّفاصيل ووضع جدول الأعمال، جاءت من أجل نشر البلبلة ولتعكِس في الوقت نفسه تمنّيات أصحابها البعيدة كُلِّيًّا عن الواقع على الأرض.
صحيح أنّه لا يُمكن أن يكون هُناك دُخان بدون نار، ولكن الصّحيح أيضًا أنّ ما قيل حول احتماليّة مُمارسة روسيا ضُغوطًا لإنهاء الوجود الإيراني في سورية هو انعكاس لقلق الطّرفين المهزومين على الأرض السوريّة، أيّ أمريكا وإسرائيل، ومعهما حُلفاؤهما العرب، خاصّةً مع اقتراب معركة إدلب التي تخوضها كُل من القوّات السوريّة والروسيّة من نهايتها، وفشل الحُشودات العسكريّة الأمريكيُة (حاملات الطائرات والقاذفات العمِلاقة) في إرهاب إيران ودفعها إلى رفع راية الاستسلام والقُبول بالإملاءات الأمريكيّة بالتّالي.
***
هُناك عدّة مُلاحظات رئيسيّة لا يُمكن تجاهلها حول هذه التّسريبات التي جرى نشرها في صُحف سعوديّة، وبطريقةٍ مُتعمّدةٍ، وفي توقيتٍ لافت:
أوّلًا: أنّ روسيا التي حسمت الحرب في سورية تقريبًا لصالحها وحُلفائها لا يُمكن أن تتورّط في أيّ مُخطّط إسرائيلي أمريكي لتبديد هذه الإنجازات والتورّط في صفقةٍ لإخراج القوات الإيرانيّة، لأنّها ليست هي التي استدعت هذه القوّات، ولا هي السلطة التي أضفت الشرعيّة على وجودها، والقوُات الإيرانيّة وحُلفاؤها (حزب الله) وصلت إلى سورية بدعوةٍ من الحُكومة السوريّة وقبل وصول القوّات الروسيّة بعامين على الأقل.
ثانيًا: أيّ صفقة ثلاثيّة أمريكيّة روسيّة إسرائيليّة، إذا صح وجودها، سيكون مصيرها الفشل مِثل مصير نظيرتها “صفقة القرن” الأمريكيّة الإسرائيليّة، ولا نعتقد أنّ روسيا التي باتت تملك اليد العُليا في سورية، ومُعظم منطقة الشرق الأوسط، يُمكن أن تكون شريكًا في هذا الفشل، لأنها ليست مُضطرّة، ولأنُ رئيسها فلاديمير بوتين أدهى من أن يقع في هذه المِصيدة.
ثالثًا: الولايات المتحدة وإسرائيل ومعهما أكثر من 65 دولة (مجموعة أصدقاء سورية)، بشكلٍ مباشر أو غير مُباشر، حاربوا ثماني سنوات في سورية، وضخّوا أكثر من 90 مليار دولار، وجنّدوا مِئات الآلاف من المُقاتلين، ومع ذلك فشِلوا في تغيير النظام السوري، ولذلك فإنّ اعتراف أمريكا من عدمه بهذا النّظام ليس له أيّ قيمة فِعليّة.
رابعًا: أمريكا وإسرائيل مرعوبتان من تنامي الدّور الإيراني، السياسي والعسكري، في منطقة الشرق الأوسط، ويقفان على حافّة حرب مع طِهران، ويُريدان إغراء روسيا ببعض العُروض لمُساعدتهما من الخُروج من هذا المأزق، وتبديد هذا القلق، ولا نعتقِد أنّهما في ظِل موقفهما المُرتبك، سيجِدان أيّ تجاوب.
خامسًا: إيران حليف قوي لروسيا، وباتت تُصنّف كقوّة إقليميّة عُظمى، وتلعب دور الشريك مع موسكو لرسم مُستقبل آمن ومُستقر في سورية، خاصّةً أنّهما خاضا الحرب ضد الإرهاب في خندقٍ واحد، وهذا ما يُفسّر قول فيرشينين، نائب وزير الخارجيّة الروسي، لوكالة “سبوتنيك” “إننا نعمل من أجل تحقيق الاستقرار والتسوية في سورية والمِنطقة برمّتها، على أساس احترام سيادة جميع بُلدان المِنطقة واستقلالها ووحدة أراضيها لذلك نحن لا نقبل أيّ صفقات”.
سادسًا: إنّ هذا المُؤتمر الثلاثي الذي سيُشارك فيه جون بويتون (أمريكا)، ونيكولاس باتروشيف (روسيا)، ومائير بن شابات (إسرائيل)، يأتي في إطار الحرب النفسيّة الإعلاميّة لزرع بُذور الفِتنة والشّك بين الأطراف المُنتصرة في سورية، وإحداث بلبلة المقصود منها نسف التّحالف القوي بين إيران وسورية من ناحيةٍ والحليف الروسي من النّاحية الأُخرى.
سابعًا: القوّات، أو المُستشارون العسكريّون، لم يكونوا موجودين على الأراضي السوريّة قبل بدء المُؤامرة الأمريكيّة المدعومة عربيًّا وإسرائيليًّا لتدمير سورية، وتغيير نظامها، وضرب وحدتيها الديمغرافيّة والجغرافيّة، وتفتيتها إلى كِيانات على أُسس عرقيّة وطائفيّة، وبعد الهزيمة الكاملة لهذه المُؤامرة، واستعادة الجيش العربي السوري لسيادة الدولة السوريّة على كُل الأراضي، وعودة الأمن والاستقرار، فمن الطّبيعي أن ينتهي دور هذه القوّات الإيرانيّة، وتعود إلى بلادها مُنتصرةً بعد انتهاء مَهمّتها.
***
الولايات المتحدة وحُلفاؤها في دولة الاحتلال الإسرائيلي وبعض الدول العربيّة يُواجهون هزيمةً أُخرى وشيكةً في المِنطقة إذا ما أشعلوا فتيل الحرب ضِد إيران، ومهما استخدموا ما في جُعبتهم من أسلحةٍ، لأن العبرة دائمًا في النّهايات وليس في البِدايات، وحروب إسرائيل في لبنان وغزّة، وأمريكا في فيتنام والعِراق وأفغانستان هي أحدث الأمثلة وأهمّها في هذا الصّدد.
فعندما يستجدي ترامب حِوارًا مع طِهران ويُوسّط اليابان والعِراق وسلطنة عُمان وسويسرا من أجل الجُلوس مع نظيره حسن روحاني، وعندما يتخلّى وزير خارجيّته مايك بومبيو عن جميع شُروطه الـ12 إذا قبِلَت إيران الحِوار دون شُروط مُسبقة، والتحوُل إلى دولةٍ “عاديّة” فهذه ليس سُلوكيّات طرف واثق من الانتصار.
إيران دولة عاديّة، وأمريكا هي التي ليست دولة عاديّة، وإنّما دولة عُدوانيّة عُنصريّة، تخوض حُكومتها حُروبًا مع مُعظم دول العالم تقريبًا، وإذا كان مفهوم ترامب وبومبيو للدولة “العاديّة” هو تخلّي إيران عن ترسانتها الصاروخيّة الباليستيّة، وطُموحاتها النوويّة السلميّة والعسكريّة، وإدارة ظهرها لحُلفائها في اليمن (أنصار الله) والعِراق (الحشد الشعبي)، ولبنان (حزب الله)، وفِلسطين (حركتا حماس والجهاد)، لتُقدّم رأسها على طبقٍ من ذهب للجلّاد الأمريكي الصهيوني، فإنّ هذا التّعريف للدولة العاديّة غير موجود في القاموس الإيراني، أو هكذا نعتَقِد.. والأيّام بيننا.