ما جرى قبل أسابيع مع قناة الجزيرة، عندما بثت القناة تقريرا عن الهولوكوست، أرادت المذيعة من خلاله ربط ما تقوم به إسرائيل من فظائع وجرائم بما حصل أثناء الحكم النازي من فظائع سميت بالهولوكوست. الا ان سقطة مهنية قلبت التقرير على صاحبته وعلى القناة التي تردد دوما شعار الجرأة في عرض أخبارها والحقائق التي تركز وتروج لها. فكان طرح المذيعة للتقرير من خلال سؤال تشكيكي بحصول المحرقة (الهولوكوست) وكذلك التقليل من عدد ضحايا الهولوكوست، خارج من إطار الموضوعية، مما وضع التقرير امام ازمة دقة الحقائق والهدف من التقرير وبالتالي وضعت القناة امام تهمة “اللا سامية” مما اضطر القناة الي سحب وحذف التقرير وتوقيف المذيعة ومن كان وراء بث التقرير.
في الحقيقة، ان التقرير بدا جيدا بالبداية، باستثناء طريقة المذيعة بتقديم الحقائق بطريقة تشككية. فمنذ البداية كان المشاهد يتوقع نتيجة تهكمية تسخر من الحقائق التي بنت الدولة الصهيونية عليها تبريرا لوجودها، وتشكك بها. ما لا نفهمه نحن العرب او الفلسطينيين تحديدا، ان الهولوكوست صار حدثا “مقدسا” بالنسبة لليهود. شأن وجداني أكثر من كونه شأنا سياسيا، على الرغم من انه كان نقطة بداية المشروع الصهيوني. الا انه تحول مع الزمن ليكون أكثر وجدانيا للإنسان العادي لارتباطه بمآسي حقيقية تم اقترافها بحقهم. التهويل امر اخر، لا يعني ان المأساة لم تقترف. فبغض النظر ان كان عدد من قتل كان مليونا او خمسة، فهناك حقيقة ان هناك أناس قد قتلوا وعوائل مسحت وأخرى شردت واختفت. وعليه تكذيب الفعل الاجرامي الذي حدث لا يخدمنا، لأنه بالفعل حدث. وما قام به الصهاينة ليس بغريب، بغض النظر عن التأكيد بأنهم استخدموا المأساة الإنسانية الواقعة على الافراد والجموع من اليهود لأهدافهم الاستعمارية ونزعهم شعبا اخر من مكانه. فالتهويل كان طبيعي في وقت لم تكن وسائل الاعلام متواجدة بهذه الكثافة التي نعيشها اليوم، واستخدام المأساة الواقعة لمآربهم كان طبيعيا، لا أخلاقي بالطبع، ولكن اين الاخلاق بالسياسة؟
نعيش ما اقترفته الصهيونية بحق اليهود واستخدامها للهولوكوست كذريعة يوميا، عندما يتم تهويل المصائب من اجل كسب حزب، او تيار، او حكومة، او جهة، نقاط سياسية في شأن ما. نعيش هذا مع كل شهيد يرتقي، وتتسابق الأحزاب على ضمه الى قائمة “إنجازاتها” من تضحيات الوطن.
بين التهويلات التي يصنعها ويبهرها أصحاب السلطات، وبين وجود مأساة حلت بأفراد بعينهم وجماعات، تكون هذه المأساة هائلة بمصابها وأثرها على أصحابها، تكمن السقطات الإعلامية. فبالنسبة للساسة هذا عملهم… الكذب، والتبهير، والخداع، وصناعة الإنجازات على جثث الشعوب.
وما جرى مع الفنانة السورية امل عرفة شبيها بما جرى مع قناة الجزيرة ومذيعتها. قد يبدو الامر مثيرا للسخرية إذا ما انتبهنا الى وجود كل من امل عرفة والجزيرة على كفي النقيض من المواقف بالأصل. فالجزيرة سخرت نفسها للترويج ضد النظام السوري الحاكم، وكان لها يدا أساسية، بل ذراعا كاملا بمسار الحرب ضد سورية، وما تثيره من تقارير حقيقية ومفبركة على مدار سنوات الحرب، كان موضوع الحلقة التي بثها المسلسل التي تقوم به الفنانة امل عرفة.
قدمت الفنانة امل عرفة لوحة درامية في محاولة للفت الانتباه الى الفبركة التي قامت به جهات إعلامية بالاتفاق مع نشطاء في ساحات الحرب كما رأينا وشاهدنا من قبل الخوذ البيضاء.
فبركة الخوذ البيضاء من خلال الجزيرة او غيرها لمشاهد الحرب والدمار والقتل والدم، لا يعني ان المجازر لم ترتكب، وان الضحايا لم تقع. فمئات الالاف ان لم يكن الملايين قد راحوا ضحية للحرب بسورية. وما قامت به الخوذ البيضاء من تهويل يشبه ما قامت به الصهيونية من تهويل للمجازر النازية ضد اليهود. ولكن يبقى السؤال المهم: هل هناك ضحايا؟ والجواب للسؤال هو نعم. وعليه، فليس من حق أحدنا ان يكذب الجرائم المرتكبة.
نعيش هذا دائما في واقعنا الفلسطيني منذ جريمة قتل محمد الدرة ومحاولة الكيان الصهيوني فبركة القصة أحيانا، بجعل الوالد والابن يهودا قتلوا، او تكذيب القصة وتحويل الضحية الى اثم لم يترك مجالا لقناصه الا لقتله.
عندما تنال قذائف الدمار الإسرائيلي من مباني غزة فتأخذ معها الضحايا من أطفال وامهات واباء وعابري سبيل، وتحول إسرائيل الترويج بأن ذلك المبنى كان لعسكريين من حماس.
عندما تفنى عائلات وتمسح من الوجود في مشاهد الحرب المتكررة على غزة، بين إحصاء للضحايا قد يكون مبالغا فيه أحيانا، وبين استخدام إسرائيل هذا التهويل حجة، تتشابه الوقائع.
ما جرى مع امل عرفة، بينما كانت تحاول تسليط الضوء على كذب الخوذ البيضاء وامثالهم، جعلها تبدو وكأنها تسخر من الضحايا وجعلت الامر يبدو وكأنه كله لعبة او مؤامرة من هؤلاء. وكأن الضحايا لم تباد أصلا، وكأن الامر عاديا الا من فبركة هؤلاء.
اعترفت امل عرفة بسقطتها واعتذرت. وهذا ما توجب. فهي كما ذكرت، تعرف معنى الفقدان والخسارة. فكيف يكون شعور الفاقد لعزيز او غالي عندما يروج أحدهم ان ذلك الفقدان كان كذبة.
نعم الخوذ البيضاء مجرمين. كما الحركة الصهيونية مجرمة. هؤلاء وامثالهم يستخدمون دم الشعوب وجثث الضحايا لخدمة مصالح مدمرة في مكان ما اخر.
جرائم الخوذ البيضاء في حق الشعب السوري لا تسقط جرائم النظام السوري في حق الشعب السوري.
وجرائم النازية في حق الشعب اليهودي لا تسقط جريمة الصهيونية في حق الشعب الفلسطيني.
كاتبة من القدس
رأي اليوم اللندنية