يحتاج اكتسابه والقدرة على ( إعادة) انتاجه لنمو تراكمي على المدى الطويل أو المتوسط على الأقل، و لهذا ارتبط ظهور المثقفين بحجم وتواتر الأجيال التي تقبل على متابعة انتاجهم وتوظفه في المخزون المعرفي العام للأمة في مختلف الفنون ومختلف الحقب وإلى انقياد تفاعلي يمكن من ربط المجتمع بوسائل تداول الثقافة والأفكار وأهمها الكتاب والأعمال الفنية الأخرى الكثيرة ، وهو ما تضاءلت فرص تداوله بين أوساط عريضة من مجتمع الثقافة التقليدي وانحسرت لصالح الثقافة السهلة التي تُفْرِطُ وسائل تحصيلها وإنتاجها الثقافي في استغلال ما توفره الحواسيب ومحركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي من (خدمات) ذات بعد ترفيهي تقني تنحسر معه المطالعة الجادة وبناء الأفكار وتوسيع المدارك والإطلاع الدقيق على التجارب الفردية للمبدعين التي هي مداميك الثقافة الأساسية، وضاعف من هذه الأزمة هبوب رياح القنوات العربية الهوجاء الحاملة لما يختمر في الساحة العربية من معارك تنشر الدموع والدماء في الشوارع، وتفرض نفسها على الإنسان في البيت والجامعة والمكتب وحتى في نوادي الأصدقاء ومنتجعات الترفيه والنزهة. سنوات قليلة زاخرة بأعظم الحرائق وأكبر الفيضانات التي اجتاحت مجتمعنا وتوقفت معها خطى المنجز الثقافي الذي كانت تسير عليه في العقود الماضية، أو انعطفت على الأقل نحو اتجاه غير الذي كانت تسير عليه مع جيل النقلة الثقافية في الوطن العربي جيل إدوارد سعيد ومحمد عابد الجابري في رؤيته الفكرية النقدية الغائرة في تراثنا ومختلف عصوره وأفق انفتاحه الراهن ، أو جيل نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف من المبدعين في انتقائه للواقع وتكثيف تموجه والسعي إليه من خلال رؤيا شاملة مدفوعة بجرأة فكرية متقدمة ، ومشدودة بالمحافظة على الهوية العربية، والإسلامية والتعميق للبعد الإنساني تشكيلاً وإيقاعياً ورؤية.
المثقف كما يرى أدوارد سعيد فرد مُنِحَ قدرة على تمثيل رسالة أو وجهة نظر أو موقف أو رأي وتجسيدها والنطق بها أمام جمهور معين ومن أجله، ولن يكون متاحا التواصل معه إلا من خلال التعمق فيه ومتابعة نشاطه على نحو لصيق وهو ما يجعل ضعف القراءة عنه أو تشتيتها معيقا لفهمه ومحاورته، وهو ما جعل العزوف أو الدعوة للعزوف عن تركيز القراءة على مثقف واحد أو تخصص بعينه عامل إضعاف لمن يطلب منهم دوما وعلى نحو مؤكد الجنوح نحو التخصص والقراءة العمودية التي توصل إلى العمق وتتيح لصاحبها معرفة كنهه بدل القراءة الأفقية التي تبقيه طاغيا على السطح.
**افتتاحية نشرت في يومية الخليج الاماراتية
-----------------
من صفحة الأستاذ: حرمة حرمة عبد الجليل على الفيس بوك