سئل أحد الناخبين أثناء حملة انتخابات 2013 لمن سيصوت، فقال دون تردد: "لتواصل". وحين طلب منه تعليل اختياره، بادر بقوله: "الدنيه يعطوها، ألاخره أمْنكفرين بها". خمس سنوات مرت تغيرت فيها أحوال الحزب والجماعة في الدنيا، وتصوراتهما للآخرة؛ تعرض الحزب لنزيف الممولين، وصنفت الجماعة إرهابية فجفت منابع التمويل. وتكفل الفكر العلماني الذي تسرب إلى الجماعة حثيثا بنقض ثوابتها "الدينية" واحدا تلو الآخر.. فقد أصبح الشعار مخمس الأضلاع (الله غايتنا...) من الماضي الذي تتمنى الجماعة لو ينساه الناس. وبذلك يدخل تواصل الانتخابات المقبلة ببضاعة مجزاة، وشك وافر...
جاء حفل منظمة شباب الحزب الصاخب ليفقد كل "تنكفارت" تتعلق بالدين صدقيتها... فقد كان الحفل انعكاسا للصراع المحتدم داخل الحزب بين السلفيين والعلمانيين. وهو صراع يتخذ مظاهر جهوية وقبلية بدت جلية في مؤتمر الحزب الأخير. فقد أزيح زعيم "اليسار الإسلامي" من قيادة الحزب لصالح "رجل ظل" عاش حياته الحزبية الأولى في ظل رئيس الحزب، ثم انتقل إلى ظل الزعيم الروحي للحزب فعمل عنده أمينا عاما لجمعية المستقبل، وبعد حلها عوض بمقعد في البرلمان مع توصية بالبقاء في الظل (خلال خمس سنوات لم يسهم بكلمة واحدة في نقاشات البرلمان!) وحين أصبح رئيسا للحزب حجبوا عنه الأضواء التي ما تزال تلاحق سلفه. وهذا الحفل إشارة من جميل وجماعته إلى أنهم ما تزال لهم الكلمة الأولى في تحديد خيارات الحزب وتوجهاته. فالانتقال المفاجئ من تحريم الموسيقى إلى التمايل على أنغامها رسالة صاخبة إلى القائمين على "مهرجان حداء الصحراء للشعر والإنشاد" الذي نظمته جمعية المستقبل في الملعب الأولمبي في 25/05/2011، تحت رئاسة محمد الحسن ولد الددو، وإشراف رئيس الحزب الجديد. أثار هذا التحول المفاجئ لغطا على وسائل التواصل الاجتماعي ساهم فيه أحد فقهاء الحزب بقوله:"الشيخ الددو عالم من أكبر علماء المسلمين لكن الشريعة لا تنحصر في آرائه وترجيحاته والحمد لله رب العالمين." واضح ما في هذا القول من امتعاض من "آراء وترجيحات" الشيخ الذي كان إلى عهد قريب المرشد الروحي للحزب وصاحب الفتوى الذي لا يلتفت إلى غيره من العلماء..."إذا صرصر البازي فلا ديك صارخ"، كما وصفه محمد غلام.
ومن المعلوم أن رأي الشيخ وترجيحه هو تحريم الغناء، ما لم يكن إنشادا، والمعازف على العموم، موافقا اجتهاد السلفيين. ففي حلقة من برنامجه "فقه العصر" على قناة اقرأ سجلت في 24/07/2009 تحت عنوان: أحكام الغناء والسماع، يصرح بحرمة الغناء والمعازف مستدلا بتفسير ابن مسعود رضي الله عنه لقوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ )، "...عن سعيد بن جبير ، عن أبي الصهباء البكري ، أنه سمع عبد الله بن مسعود - وهو يسأل عن هذه الآية : ... - فقال عبد الله : الغناء، والله الذي لا إله إلا هو ، يرددها ثلاث مرات" . ويقول ولد الددو: "الصريح أن هذه الآية نزلت في تحريم المعازف."
ويستدل الددو من السنة على حرمة المعازف بحديث " ليكوننَّ من أُمَّتي أقوام يَستحلُّونَ الْحِرَ والحَريرَ والخمر والمعازِف، ...". ويدافع الددو باستماتة عن الحديث حين تكلم فيه مقدم البرنامج. وحين سأله مقدم البرنامج "هل يفهم من هذا الحديث كفر هؤلاء؟" رد الددو: "إي، نعم!".
هذا الانتقال من النقيض إلى النقيض لا ضابط له سوى مصالح الحزب والجماعة. فقد ظل الغناء منكرا ما سادت العقيدة السلفية ومولت بسخاء، واليوم وقد غلت يدها وحوربت في منبتها رأى الإخوان التحول عنها إلى نقيضها معللين ذلك بأن "الانتقال من مذهب فقهي إلى مذهب فقهي ليس تناقضا بل هو دليل على البحث الدائم عن الأصح والأصلح..."! قد يكون لهذا القول وجه لو أن الحزب عقد "أياما تفكيرية حول المعازف" أصل فيها مذهبه الجديد، كما فعل مع مذهبه الأول بمناسبة "حداء الصحراء" والتنظير للفن الإسلامي. وبذلك يكون الانتقال إلى الحفل مبررا على مستوى الفكر. أما التبرير بتدوينات كتبت على عجل فدليل على إرادة أحد الأطراف المتصارعة وضع الطرف الآخر أمام الأمر الواقع.
والحقيقة أن الدين استخدم هنا كالعادة لتبرير مواقف سياسية براغماتية. فاشتراك التكتل في الانتخابات القادمة أفقد الحزب بوصلته ليقينه بفقدان العديد ممن كانوا يصوتون له في غياب التكتل الذي كان تواصل يدفعه إلى المقاطعة. فلو اقتصرت الحملة على الأناشيد فسيظهر قلة المنتسبين للحزب أثناء مهرجاناته، لكن الاستعانة بالموسيقى قد تجلب بعض الفضوليين... حين كان الإرهاب يمزق جسم الأمة ويدمر البلدان كانت الأناشيد هي الموضة، هي الفن الإسلامي الأصيل المحرض على القتل تحت شعار مقاومة الاستبداد فتمايل المشايخ على شدو "قم غادر!" محرضين على النفير ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف! أما وقد هزم الإرهاب وجفت التدفقات المالية، ودخل التكتل حلبة المنافسة، فقد وجبت الهجرة من دار الحرب في الملعب إلى دار الشباب.. من النفير إلى الصريخ.. من "قم غادر!"، إلى "مشي لمعيط، لمدنه اندخلت..."